القائمة الرئيسية

الصفحات

 






جالسا في شمس الظهيرة الحارقة، يحدق بالوافدين الجدد الي الجامعة، فتيات جميلات ناصعات البياض، يحتضن كتبهم بين ايديهم، بينما يحملون فوق ظهورهم حقائبهم الكبيرة المكدسة بالكتب، كانو يمرون بجانبه دون أن يعيروه اي اهتمام، وكأنهم يمرون عن شيء عديم القيمة، ولكن أن يكون عديم القيمة في نظرهم أفضل وأسلم، من أن يحظى بنظرات الاشمئزاز والقرف منهم، فاختلاف لون بشرته الشديدة السواد، وملابسه البسيطة الغير متكلفة، وكونه عامل بسيط في هذه الجامعة الكبيرة، لم تكسبه احترامهم ابدآ، ولكن بمرور الأيام استطاع سالم أن ينال محبتهم واحترامهم بذكائه ودهائه.

- سالم؟! هل ما زلنا على موعدنا؟!

رفع رأسه ليحدق بها، ماجدة فتاة طويلة بيضاء وجميلة، ابتسامتها تضيء وجهها كالشمس المشرقة لحظة سطوعها، في الماضي اعتادت ماجدة تجاهله و ازدرائه، الان تحوم حوله وتلاحقه، لأجل صالحها فقط، كان سعيدا أنه استطاع تحويل نظرات الكره والاحتقار في عينيها الي نظرات امتنان، ولكنه يعلم بل هو واثق أن هذا الامتنان لن يدوم طويلا، حالما تحصل على مبتغاها، سوف تعود إلي أصلها الحقير، وتصرفها المهين، ليست سوى فتاة مدللة كريهة تسعى إلى مصالحها، وقف سالم بسرعة ليحييها بأدب جم واحترام اعتاد عليه جميع طلاب الجامعة وطالباتها، فقد كانت تصرفاته لا غبار عليها ابدا، كان ودودا طيبا، يعرض خدماته للجميع وفي كل الاوقات، منهم من كان يتجاوب معه ويصادقه، ومنهم من كان يرفض ويبتعد عنه رافضا كارهاً، وبابتسامة واسعة اجابها، وكأنه يطلعها على سر لا يجب أن يعلم به غيرهما:

- بالتأكيد! سانتظرك اليوم في الثانية عشرة مساءً تماما كما اتفقنا.

هتفت الفتاة بحماسة، وهي تكاد تطير من السعادة، فقد بحثت طويلا عن شخص يساعدها في هذا الموضوع دون جدوى، ولم تتصور أبدا، أن يكون سالم الشخص الوحيد القادر على مساعدتها:

- هذا رائع! أشكرك كثيرا يا سالم، بعد أن أنتهي من بحث التخرج، ستنال مكافئة مجزية!

وانطلقت لتلحق بمحاضراتها قبل أن تفوتها، راقبها سالم وهي تبتعد وتنهد عائدا إلى المطبخ، حيث كان يعد فنجانين القهوة المرة أو الشاي ليوزعها على دكاترة الجامعة والمحاضرين، فقد كانو العاملين في الجامعة من دكاترة ومعيدين، يحترمونه ويقدرونه، ويثقون به كثيرا، لهذا كان بإمكانه الوصول إلي جميع البيانات الجامعية، والاختبارات الشهرية والسنوية للطلاب بكل سهولة، فلم يكن يخفى عليه شيئا أبدا، ولأجل هذا نال محبة الطالبات من خلال تسريب اوراق الامتحانات وإجاباتها لهن، وهذا كان الهدف من تودد الطالبات اليه:

- أشكرك يا سالم، قهوتك هذه هي سبب بقائي في هذه الجامعة.

ابتسم سالم محرجاً وسعيدا لمديح الدكتور أسعد له، فقد كان الدكتور أسعد مختص بعلم الكيمياء، وقد أحب سالم التواجد برفقته داخل المختبر ومراقبته أثناء عمله وتجاربه في خلط المواد الكيماوية وتفاعلها معا، وصدم مما بإمكان مادة كيماوية واحدة فعله فيما لو خلطت مع بعض العناصر الأخرى، قال سالم في نفسه،( لو عاد بي الزمن للخلف، لدرست مادة الكيمياء، وأصبحت متخصصاً بها) كان الوقت يمر سريعا داخل المختبر، فقد كان يسأل كثيرا ويستفسر كثيرا عن كل شيء، والدكتور أسعد كان يحب تعطشه لجمع هذه المعلومات ويشيد بسالم وذكائه، لأنه كان سريع الفهم و البديهة.

أنهى سالم توزيع القهوة وعاد إلى موقع عمله ليستريح، فقد تبقى على انتهاء دوامه ساعة ونصف، وحينها سيعود الي غرفته الصغيرة المستأجرة ليتناول طعامه ويغفو لعدة ساعات قليلة، ثم ينهض مجددا ليبدأ دوامه الليلي في المشرحة، فالحياة ليست سهلة ابدا، ولكن سالم اعتاد عليها، فالسماء لا تمطر نقودا، وعليه أن يكد ويشقى حتى يصل لما يريد.

**********

- حبيبتي وانا أيضا أشتقت لكي كثيرا، ولكني أعدك حالما أنتهي من أعمالي العالقة، سأستقل أول طائرة واعود اليكي، لن أفارقك أبداً.

ابتسمت سلمى بسعادة وهي تتشبث بالهاتف بقوة وصاحت بحماسة:

- سالزمك بكلماتك هذه يا ابي! ففي كل مرة تخبرني بهذا ولا تفي بوعدك.

ضحك والدها بحرج، فمنذ بداية دراستها وهو يعدها باللحاق بها، ولكن بسبب أعماله المتراكمة لم يستطع ذلك، وها هي قد قاربت على التخرج وهو لم يفي بوعده، ولكن هذه المرة هو ينوي بجدية أن يتفرغ لها تماما، ويحتفل بتخرجها أيضاً، فهي فتاته الوحيدة، الذكرى الوحيدة المتبقية له من زوجته الراحلة:

- ثقي بي يا صغيرتي هذه المرة، أعدك بذلك!

دخل السكرتير الخاص به إلي المكتب يحمل بعض الأوراق التي تحتاج إلي توقيع:

- حسنا حبيبتي سأغلق الآن واحادثك لاحقا، اعتني بنفسك.

أرسلت له سلمى عدة قبلات خلال سماعة الهاتف، وقفزت فرحة سعيدة فوق سريرها، وانكبت تتابع دراسة مشروع التخرج الذي شارفت على الانتهاء منه، فقد توفت والدتها الحبيبة بعد معاناة طويلة من مرض السرطان، وقد أخذت سلمى عهدا على نفسها، أن تصبح طبيبة متخصصة بعلاج الأورام السرطانية الخبيثة، حتى تساعد حاملين هذا المرض على الشفاء، وبهذا تكون حققت حلمها وحلم والدتها الراحلة.

كان يصرخ بشدة ولكن دون صوت، أراد الهرب من مكانه ولكن قدميه التصقتا بالأرض بطريقة مرعبة، هو لا يستطيع الحراك من مكانه لا يستطيع التقدم أو التراجع، يستطيع فقط المراقبة، اتسعت عينيه برعب شديد، انحنى والده الغارق بالدماء ليحمل جثة الرجل ويلقيها فوق جثة زوجته التي انتهى من تقطيعها لتوه، لتنتهي جثة الرجل الي نفس الحالة التي انتهت بها جثة والدته، كان والده يدندن هامسا باغنيته المفضلة والتي أعتاد سماعها دائما، كان يقوم بعمله بدقة متناهية، وكأنه أعتاد على تقطيع لحوم البشر كما لو كانو حيوانات، وبعد أن انتهى وفي الظلام الخافت، وعلى ضوء القمر الباهت، حمل جثة زوجته الخائنة وعشيقها بعد أن وضعهم في أكياس بلاستيكية سوداء وخرج الي حديقة المنزل، حيث أعد حفرة عميقة تتسع لاشلاء زوجته الخائنة وعشيقها الحقير، راقبه سالم بقلب راجف خائف، وقد كتم أنفاسه المتسارعة خشية أن يستمع والده إليه أو يراه مختبئا خلف الباب، بعد أن انتهى والده من ردم الحفرة فوق اشلائهما النجسة، إعتدل نافضا عنه التراب، كان الوقت منتصف الليل، والجو قارص البرودة، برقت السماء بقوة ليهدر صوت الرعد مجلجلا أنحاء المنزل، يعلن عن هطول اول دفعة من قطرات المطر السميكة، ارتعد سالم في مكانه حينما أضاء البرق وجه والده الأسود الغارق بالدماء، وقد اتجهت عيونه السوداء الحادة، تماما إلى حيث وقف سالم يراقبه بخوف ورعب، كانت حبات المطر تضرب وجه والده بقوة وتنحدر فوق جسده لتزيل الدماء عن وجهه المخيف، وتبلل ملابسه الغارقة بالدماء والطين والماء، وفي الحال تحركت أقدام سالم من مكانها لينطلق مسرعا الي غرفته مغلق االباب على نفسه، خائفا مرتعبا، ملتصقا بجدار غرفته، وقد ارتكزت عيونه الخائفة على الباب المغلق، يخشى أن يندفع فجأة ويفتح على مصراعيه ويتجسد والده الغاضب أمام عينيه، كان يستمع إلي صوت خطوات أقدامه تقترب ببطىء من باب غرفته، ومع كل خطوة كانت ضربات قلبه تزداد حتى هيء له أن قلبه سيتوقف من شدة الخوف، التفت قبضة الباب ببطىء شديد، أخفى وجهه بين ساقيه، مغلقا عينيه وأذنيه عن رؤية أو سماع أي شيء يرعبه، أفلتت منه صرخة مدوية اخترقت جدار غرفته الصغيرة الغارقة بالظلام.

قفز من فراشه صارخا بهلع، جسده متعرق من شدة الخوف، وانفاسه متسارعة وكأن وحشا كان في أعقابه، عيناه شديدتا السواد جاحظتان يهيء للناظر إليه بأنهما ستخرجان من محجرها، وبعد لحظات أدرك بأنه كان يخوض كابوسه المعتاد، الذي لم يفارقه ابدا من لحظة وقوع الحادث، سارع ليتجرع الماء من زجاجته المركونة الي جانبه حتى ارتوى، ورفع ما تبقى من ماء داخل الزجاجة ليسكبه فوق رأسه ويطفىء الحريق الذي اشتعل في شرايينه، ثم عاد ليلقي بجسده المتعرق المرتعد فوق فراشه محدقا في سقف غرفته المشقوق، وعاد بذاكرته الي ذلك اليوم المشؤوم، حين عاد والده من عمله في منتصف الليل على غير عادته، وفوجىء بزوجته في أحضان رجل آخر، حينها فقد صوابه وتسلل إلى المطبخ بهدوء كي لا تشعر زوجته الخائنة وعشيقها به، واستل سكينا حادة أعتاد تقطيع اللحوم بها، وعاد إلى غرفة نومه حيث تعالت الهمسات والضحكات الماجنة، اقتحم والده الغرفة بعنف وانقض بسكينه يطعن ويذبح دون توقف دون هوادة ودون رأفة، حتى أنه لم يتسنى لوالدته وعشيقها ادراك ما حدث تماما إذ فاضت أرواحهم الي خالقهم، سالم لم يستطع أن يمحو هذا المشهد من ذاكرته، فقد استيقظ يومها عطشاَ وراح يبحث عن والدته ليفاجىء بذلك المشهد المريع، فحتى الآن لم يستطع انتزاع وجه والده الغارق بالدماء من مخيلته، ولا يستطيع نسيان صوت ضحكاته الهستيرية المجنونة، في ذلك اليوم اختبأ سالم منتظرا بخوف أن يعود والده لصوابه، ولكنه لم يعد أبدا، فقد استيقظ سالم في اليوم التالي لجريمة والده الشنعاء، وبعد تردد وخوف كبير، خرج من غرفته ليبحث عن والده، ولكنه لم يجده ابدا، فقد اختفى وأخفى كل أثر تبقى من جريمته الوحشية، سالم لم يفهم سببا لفعلة والده الشنيعة الا حينما كبر ونضج وأصبح واعيا لمتاهات الحياة، حينها شعر بالكره الشديد لوالدته، و أدرك بأن والده كان بريئا بل كان ضحية مجون والدته وفسادها، بل تمنى لو يعود به الزمن للخلف فيعود ليساند والده ويساعده في التخلص من جثمانها القذر.

نهض من فراشه ملقيا بهمومه بعيدا واتجه الي دورة المياه كي يأخذ حماما سريعا يعيد إليه نشاطه.

كانت ماجدة تنظر إلي الساعة بين الفينة والأخرى تترقب الموعد المتفق عليه مع سالم، كانت تراقب الاضواء المشعة في المشرحة وتنتظر بصبر نافذ أن تطفأ الانوار وتضاء لثلاثة مرات متتالية في إشارة من سالم أن الجميع قد غادر، اختبأت خلف الأشجار حينما رأت اخر السيارات تغادر المكان، وما أن رأت إشارة الضوء حتى أسرعت في التقدم نحو المشرحة بخطوات خائفة مترددة، راقب سالم خروجها من بين الأشجار الشائكة وتقدمها نحوه، همست بتوتر:

- هل هي جاهزة؟!

أومأ لها برأسه أن تتبعه للداخل، شعرت ماجدة بقشعريرة باردة ورهبة، فقد حل سكون الاموات على المكان، وللحظة وجيزة هيء لها بأنها تسمع صرخاتهم المعذبة وترى خيالاتهم البيضاء كأنهم يحومون حولها، لاحظ سالم خوفها الشديد ولمعت أسنانه الشديدة البياض في السواد الحالك المحيط بهم، بابتسامة شيطانية خبيثة، فقد أعجبه رؤية خوفها، واحب تشبثها بذراعه لتحتمي به، أخبرها بصوت منخفض:

- الأموات لا يخيفون، انهم يرقدون بسلام وهدوء.

همست بخوف متعثرة بخطواتها:

- ألن تشعل الأنوار، فالمكان بارد ومخيف.

تناول سالم كشاف اسود عن طاولة قريبة، فقد عمل بالمكان لفترة طويلة، وقد استطاع التجول داخله براحة دون أن يتعثر بالاثاث الموجود فهو قد اعتاد على الظلام و تعايش معه كأنه جزء لا يتجزأ من حياته، غمر ضوء الكشاف المكان واغمضت ماجدة عينيها بضيق من حدة الضوء، اتسعت ابتسامة سالم وهو يمعن النظر اليها، فقد بدت هذا المساء جميلة بشكل يثير غرائزه الدنيئة والتي حاول مرارا وتكرارا دفنها داخله، كي لا يثير خوف الفتيات منه، وبدأت الأفكار الشيطانية تراوده، وكأن دافعا خفيا قويا، يحثه على تطبيق أفكاره القذرة، أخذت ماجدة الكشاف من يده وأخذت تحوم في المكان مستكشفة بعد أن أخذت جرعة من الشجاعة لوجود سالم الي جانبها، وصل إلي مسامعها صوت سالم يسألها بغموض:

- هل أخبرتي أحدا بشأن قدومك الي هنا؟!

كانت ماجدة منهمكة في تفقد المكان ولم تلاحظ ابدا نظرات سالم المريبة اليها، ولم تشعر اطلاقا بغرابة سؤاله، لذا أجابت بعفوية وهي ما زالت تتفقد المكان بانبهار:

- بكل تأكيد لم أفعل، فقد تسللت من البيت خارجة دون أن يلاحظ أحدا غيابي!

ثم التفتت إليه بعد أن تنهدت ضجرة، وتابعت بحماسة:

- أين هي عينة بحثي، لا أريد المكوث هنا فترة طويلة، فقد بدأت أشعر بالبرد الشديد. 

لم تحصل على إجابة من سالم، أضاءت الكشاف في جميع الزوايا، ولكنها لم تعثر عليه، فكرت أنه ذهب ليأتي لها بالعينة التي طلبتها، ولكن لما لم يخبرها قبل ذهابه، نادت بصوت مرتجف، وهي تتابع البحث عنه:

- سالم؟! أين أختفيت...(تعثرت بخطواتها المرتعدة وشتمت بصوت عال) اللعنة على هذا الظلام الدامس.

وفجأة ظهر سالم أمامها مما جعلها تشهق من الخوف وتتراجع مبتعدة بسرعة، ولكن ما أن ركزت ضوء الكشاف عليه وتاكدت من أنه سالم وليس أحد الجثث الملتفة بالبياض، حتى تنفست الصعداء، وقالت براحة:

- يا الهي! لقد أخفتني...أين اختفيت؟! فقد بحثت....

وتطايرت باقي جملتها في الهواء أثر حقن سالم لها في عنقها إبرة مخدرة، جحظت عيناها بشدة وقد سقط الكشاف من يدها وحاولت أن تتشبث بسالم كي لا تسقط ولكن بعد فوات الأوان، فقد سقطت فوق الارض الصلبة مغشيا عليها، نظر إليها سالم بابتسامة شيطانية مخيفة، فهو الآن سيحصل على ما رغب به منذ فترة طويلة، ولن يستطيع أحدا إيقافه أو منعه من الحصول على غايته، انحنى سالم فوقها وحملها ليتجه بها فوق إحدى طاولات التشريح الكبيرة، وقام بالاعتداء عليها دون رحمة أو شفقة، بعد أن انتهى من فعلته الدنيئة عاد لارتداء ملابسه، وأخرج سيجارة من جيب بنطاله وجلس يفكر في خطوته القادمة، فهو لم يخطط لهذا أبدا، فقد كانت فكرته الشيطانية هذه وليدة اللحظة ولم يفكر بها أبدا، أخذ يفكر، هل يتركها الي حين أن تستيقظ ويتظاهر بأن شيئا لم يحدث، أو يتخلص منها للابد دون أن يشعر به أحد، وبعد فترة تفكير ليست بالطويلة، قرر أن الحل الافضل هو قتلها والتخلص منها، لأنها حينما تستيقظ سوف تتذكر كل ما حدث وتبلغ عنه الشرطة، سوف يخسر عمله وحياته من أجل فتاة رخيصة لا تستحق، أطفأ سيجارته بحذائه الاسود المطاطي، واتجه الي حيث يحتفظ بالادوات التي ستساعده، في أخفاء معالم جريمته.

كانت ليلة عصيبة أمضاها سالم في التقلب في فراشه، وجميع الأفكار السيئة والكوابيس المخيفة تهاجمه، في ذلك الصباح الكئيب اتجه سالم الي الجامعة الطبية، وافكار كثيرة تتزاحم في عقله، ومخاوف كبيرة تتلبسه في كل خطوة يقترب فيها من الجامعة، بدأ نهاره تماما كما اعتاد أن يبدأ نهاراته السابقة في كل صباح، يبتسم لجميع الوافدين ويحييهم تحية الصباح، ويسارع في مساعدة المعلمين والأطباء، في حمل حقائبهم الثقيلة، وايصالهم الي داخل البناية، كان يتصرف بطبيعية شديدة وكأنه لم يرتكب اي إثم بالأمس، وحينما انتهى من روتينه اليومي عاد ليجلس في الساحة، يراقب مدخل الجامعة بخوف شديد أخفاه تحت قناع هدوءه المحكم وابتسامته البريئة، ولكن مضى النهار رتيبا طويلا مملا دون أن يحدث شيئا مما خشاه سالم وتوقعه، كان يوزع القهوة بشرود وليس كعادته، حتى أن دكتور الكيمياء أسعد الذي أعتاد مناقشته دائما في أحدث تقنياته واختراعاته التي وصل اليها، لاحظ شروده وتبدله، هتف يمازحه كي يلفت انتباهه إليه:

- يبدو أن هناك أجراس زفاف سوف تصدح قريبا!

عبس سالم متسائلا عما يعنيه صديقه الدكتور أسعد، وحينما نظر إلى وجه أسعد أدرك سالم، حماقته وغبائه، كيف سمح لشروده وتوتره أن يخدعه ويظهر فوق ملامحه، أن استمر على هذا الحال سوف يكتشف أمره بالتأكيد، وفي سره شكر حسن حظه أن الدكتور أسعد ظن أن سبب شروده وانقطاع حديثه المعتاد، هو تعرفه على فتاة جديدة وتفكيره بالزواج والاستقرار، ووجد سالم أن هذه فكرة ممتازة ومناسبة، ليعلل بها سبب تغيره الطفيف، تظاهر سالم بالحرج، وهو يبتسم بتوتر متابعا تمثيله المتقن:

- انت محق يا دكتور أسعد، أتمنى من الله أن يتم الموضوع على خير، فأنا أخشى كثيرا من الرفض، فهم الان يسألون عني وعن أخلاقي، فالزواج ليس بالأمر السهل.

ضحك أسعد بسرور عارم، وقال له مشجعا كي يرفع آماله ويخرجه من حالة الشجن التي يمر بها.

- لا تقلق يا صديقي الطيب، أنا واثق بأنهم لن يجدوا زوجا أفضل منك لابنتهم، فأنت شاب كادح وذكي، والفتاة التي ستكون من نصيبك هي الأكثر حظا فوق هذه الكرة الأرضية.

ابتسم سالم بحبور، فهو كان بحاجة لدعم نفسي مثل هذا، خرج سالم عائدا الي مطبخ الجامعة، وما أن أعلنت الساعة الكبيرة المعلقة انتهاء الدوام، حتى سارع سالم بإنهاء أعماله ومغادرة الجامعة الي غرفته الصغيرة وملاذه الأمن.

كان يعتقد أنه ما هي إلا ساعات قليلة وسوف يكتشف أمره بأي لحظة، ومر يوما آخر مثل سابقه، برتابة وملل شديد وخوف أقل، الي أن مضى ثلاثة أيام بلياليهم دون أن يكتشف أمر سالم، الذي بدوره لم يصدق كيف حالفه الحظ ونجى بأعجوبة من هذه الجريمة، كان قد صلى وشكر ربه وتعهد بأنه لن يرتكب نفس الخطأ مجددا، فقد أكرمه الله بالستر وهو سيصون كرم ربه عليه ويصبح شخصا أفضل.

- لا أدري أين اختفت تلك الحمقاء! ولكن كان عليها أن تطالبه بطلب يدها رسميا من عائلتها بدل الهروب من بيتها في منتصف الليل.

ردت عليها صديقتها موافقة:

- انتي محقة، لم أتخيل ماجدة أن تكون بهذا الغباء، كي تهرب مع شخص غريب عنها بالكامل، يا الهي لا استطيع التصديق.

راقب سالم ابتعادهم عنه وقد ارتسمت ابتسامة واسعة منتصرة فوق شفتيه الغليظتين، إذن فهذا ما يظنه الجميع بشأن اختفائها، أنزل خرطوم الماء الذي كان يروي به الازهار وهو يتنهد براحة، وذهب لتقديم الشاي والقهوة بخطوات مختالة فرحة، لقد نجى وبأعجوبة.

- يجب علينا أن نعطي دروس توعية بهذا الشأن، فما يحدث لهو أمر شائن بحق ابنائنا وبناتنا، لا يمكن السكوت عن هذا الأمر.

سارع أستاذا آخر بالرد:

- مستحيل أن يستمعو الينا، فهذا الجيل عنيد جدا، ولا يستمع إلي نصيحة أحد.

رد الدكتور أسعد بحزن وأسى:

- ماجدة كانت من أفضل الطالبات لدي، لا أعلم كيف استطاع شاب اغوائها، وحملها على الهرب معه، انا حقا حزين لأجلها، فقد كان لها مستقبلا واعدا.

كان سالم يتباطأ في تقديم المشروبات الساخنة، يحاول البقاء لفترة أطول كي يستمع إلي المزيد فيما يخص ماجدة واختفائها، حتى أنه قرر المشاركة بالحديث، كي يبعد الشكوك عنه نهائيا:

- كان على عائلتها الاستعانة بالشرطة، هم الوحيدون القادرون على إيجادها وإعادتها.

قال أسعد نافيا:

- مستحيل أن يلجأ أحد لطلب المساعدة من الشرطة يا سالم! ففي حينها سوف تفضح الفتاة وعائلتها، وسينتشر خبر هروبها مع رجل غريب كالنار في الهشيم، لا لن يجرؤ أي شخص من عائلتها حتى على طرح الموضوع.

اعترض أستاذا جامعيا آخر بضيق على تفكيرهم الجاهل:

- اه يا الهي، لا يجدر بعائلات هذه الفتيات السكوت عن حقهم، ماذا لو كانت الفتاة مخطوفة وبحاجة الي مساعدة، كيف يثقون بأنها هربت مع شخص آخر وليست مقيدة ومخفية في مكان بعيد عن العيون، هذا هو سبب جهلنا نحن العرب وعدم تقدمنا ولو لخطوة واحدة.

وهنا شعر سالم بالقلق والتوتر، ماذا لو ابلغ هذا الاستاذ الأحمق الشرطة، حينها سيكون في مأزق كبير لن ينجو منه أبدا، سارع سالم على الاعتراض مؤكدا ما سمعه اليوم من صديقاتها:

- هذا ليس صحيحا، فقد سمعت للتو صديقاتها يؤكدون هروبها مع حبيبها، على ما يبدو أنها أخبرتهم بشأن ذلك قبل اختفائها، أن عائلتها محقة في عدم إبلاغ الشرطة، فالعار والذل سوف يلحق بهم الي ولد الولد.

هز أسعد رأسه موافقا، بينما همهم الجميع ما بين مؤيد ومعارض، وانسحب سالم من بينهم بهدوء، تاركا خلفه نقاشا حامي الوطيس بسبب المعلومة الأخيرة التي أدلى بها سالم، وهمس لنفسه مبتسما بانتصار( أنها الجريمة الكاملة، سالم انت عبقري). 

عاد سالم لروتينه القديم، في مساعدة الطلاب بتسريب أسئلة الامتحانات لهم وتمرير اوراق الاختبارات فيما بينهم، فقد بدأ يعود لحياته الطبيعية دون أن يشعر بذرة خوف وحيدة، الي أن ظهرت طالبة جديدة بحاجة إلى أعضاء انسان، كي تعمل على تشريحها وتنهي مشروع تخرجها، وبالرغم من تعهد سالم لنفسه بأن لا يكرر جريمته الشنيعة، الا انه شعر برغبة شديدة تحثه على الموافقة، وقد شعر بالادرينالين يتدفق بعروقة من شدة الحماسة والاثارة، وبابتسامة واسعة خبيثة أخبرها:

- بالتأكيد أستطيع توفيرها لأجلك، ولكن عليكي أن تبقي هذا سرا بيننا، فإن علم أحد بذلك سأفقد وظيفتي وسأزج بالسجن.

سارعت الفتاة بتاكيدها له على كتمانها هذا السر:

- لا تقلق لن أخبر أحدا بهذا الشأن، حتى اني لن اهمس به لنفسي.

ابتسم سالم بانتصار قائلا:

- جيد جداً، سانتظرك اليوم في المشرحة بعد الساعة الحادية عشرة، أنتظري مني اتصالا.

افترقا بعد أن تواعدا على اللقاء، في ذلك اليوم كان سالم أعد خطته بحيطة وحذر، فهو هذه المرة لن يتردد أبدا، خاصة بعد انتشار ظاهرة هروب الفتيات من بيت عائلاتهم مع احبائهم، وكأن الشيطان يعبد له الطريق ويسهله ليرتكب المزيد من الجرائم، وبالفعل أتت تلك الطالبة الجديدة بالموعد المحدد ودخلت المشرحة حيث ينتظرها سالم في الظلام الداكن، ولم تخرج منها أبدا.

استقبلت سلمى والدها بالمطار بسعادة غامرة، فقد كانت سعادتها كبيرة جدا لعودة والدها للبقاء بجانبها الي حين موعد تخرجها من الجامعة، ذهبت برفقة والدها الي مطعم قريب، وقالت وهي تدق على صدرها بفخر وغرور:

- هذه الدعوة على حسابي، بامكانك طلب ما تشاء من الطعام، فاليوم سنحتفل على شرف وصولك.

ضحك والدها بسعادة وهو يقرصها من خدها، قائلا بحنان يفيض حبا وهياما بوحيدته الصغيرة:

- هذا رائع، إذن اطلبي لي الطعام الأغلى والالذ في القائمة، ما دام لدي ابنة بهذا الاكرم والاخلاق، إذن علي أن احسن استغلالها.

ابتسمت سلمى بسعادة وأشارت بيدها النادل الذي أسرع بالحضور اليها، وما أن مرت القليل من الدقائق حتى امتدت السفرة أمامهم مليئة بما تشتهي الأنفس، صاح والدها متذمرا:

- يا الهي ما كل هذا التبذير، انتي لستي اهلا للثقة، كان علي طلب طعامي بنفسي، لا أفهم كيف ستحاسبين عن كل هذا الطعام ومن أين؟!

ضحكت سلمى بدلال وقالت غامزة بعينها الي والدها الحانق:

- هاي أبي، لا تقلق إن لم أستطع الدفع، سوف نتعاون انا وانت بغسل الأواني والصحون الى أن يطلقون سراحنا، أو...بامكاني اقتراض دين صغير من والدي لتسديد المبلغ، ما رأيك؟!

اه فتاته الصغيرة هذه، كلما كبرت أكثر كلما ازدادت شبها بوالدتها الحبيبة، قال مشاكسا:

- سوف نرى بشأن هذا.

بعد انتهائهم من تناول الطعام، دفع والدها بكل حب وطيب خاطر ثمن الطعام، وأحاط بخاصرة ابنته متجها بها الي حيث تنتظرهم سيارة الأجرة، كانت سلمى مدللة والدها التي يثق بها ثقة عمياء، فهي لم تعصي أمره يوما، لطالما كانت مثال الابنة البارة والطالبة المجتهدة، بعد أن أعدت غرفة نوم والدها تركته ليرتاح قليلا وانكبت تراجع دروسها وتدون ملاحظاتها، وقد كانت تشعر بحماسة شديدة لاقتراب تخرجها وانهاء مشروع البحث الخاص بها.

من ناحية أخرى كان سالم مستمرا بجرائمه الغامضة فقد تجاوز عدد الفتيات المختفيات الثلاث وعشرون فتاة، جميعهم سجلو لدى مركز الشرطة بالهاربات من عائلاتهم، بينما سالم اعتاد على ممارسة طقوسه المنحرفة وجرائمه البشعة وكان يصطاد الفتيات الجميلات، وينتقيهن من بين المئات، وقد كان سعيدا بانجازاته وفخورا بها، فقد استطاع ارتكاب عشرة جرائم دون أن يكتشف من قبل اي أحد، وهذا ما شجعه على الاستمرار بأفعاله المشينة، وكان قد لاحظ بسعادة غامرة اختفاء كابوسه الدائم الذي لاحقه منذ طفولته، فلم يعد والده الغارق بالدماء يداهم احلامه، أو يحاول الامساك به، فقد تجاوز هذه المرحلة بنفسه دون حاجته للاستعانة باي طبيب نفسي، وهذا أشعره بالقوة والجبروت، وكأنه يستطيع التغلب على جميع الصعاب التي تواجهه في حياته، إذ كان يقنع نفسه بأنه ينقذ معشر الرجال من براثن النساء الخائنات ويخلصهم من شرورهم قبل أن يتسببن في ضياعهم مثل أبيه المسكين، فهو بقتله لهن ينتقم لوالده البريء ويأخذ بثاره من والدته ويغسل عاره بيديه، كان سالم مقتنعا بهذه الفكرة وقد اعتبرها نهجا له في حياته، يسير عليه ولا يحيد عنه أبدا، وخيل إليه شيطانه الذي يسيطر عليه بأن إلهه يساعده في تحقيق مآربه والنجاة بجرائمه، لأنه على حق ولأن هؤلاء الفتيات ليسو سوا عاهرات فاسقات لا يستحقون الحياة، أجل فقد زين له الشيطان، أعماله البشعة وجملها، كي يقتنع بها ويستمر.

- لا أدري كيف سأحصل على هذه الجمجمة، أنه بحث تعجيزي لن أستطيع تجاوزه، أبي أرجوك فلتساعدني! 

تنهد والدها بضجر، فقد وصل منذ أسبوع فقط وابنته كل يوم وكل ساعة بل كل دقيقة ترجوه من أجل تلك الجمجمة السخيفة:

- لما لا يمكنك استخدام جمجمة بلاستيكية، لما هذا التعجيز، الا يجدر بهم توفير هذه الأعضاء لكم؟!

ضربت سلمى الأرض بقدمها متذمرة:

- كيف تريدني أن أقدم مشروعي بجمجمة بلاستيكية، أبي أن الجميع سوف يسخرون مني، أما أن تكون جمجمة حقيقية أو أني لن أقوم بمشروع التخرج هذا أبدا.

هز والدها رأسه مستسلما خائب الأمل، ولكن بعد عدة أيام قليلة، أخبرته ابنته بسعادة غامرة، بأنها وجدت حلا لمشكلتها، يومها والدها لم يسأل كثيرا أو يستفسر عما تعنيه تماما، الا انه شاركها فرحتها، وخرجا للاحتفال سويا، كانت سلمى فتاة طيبة جميلة ومتواضعة، وكان والدها يفتخر بها أينما ذهب، فهو قد أحسن تربيتها وتعليمها، وقد وضع لمستقبلها خططا كثيرة، كانشاء عيادة صغيرة لتبدأ فيها عملها، وبعد أن تكتسب المهارات والخبرات الواسعة سوف يقيم لها مشفا كبيرا ويسميه باسم زوجته الراحلة تحت إدارة ابنته الطبيبة الماهرة.

في الصباح الباكر طرق والد سلمى غرفتها، عدة طرقات خفيفة، وحينما لم يسمع اي صوت من غرفتها فتح الباب ودخل يبحث عنها، كان سريرها مرتبا وكأنها لم تبيت هذه الليلة في المنزل، الا انه كان واثقا من أنها كانت في غرفتها ليلة أمس، نزل الي الصالة يبحث عنها ولم يجدها أيضا، شعر بانقباض في قلبه، فمنذ وصل إلى البيت وسلمى تستأذنه بكل صغيرة وكبيرة، ويعلم جيدا بأنها لن تذهب الي الجامعة دون أن تخبره، قام بالاتصال على إحدى صديقاتها المقربات:

- أجل، أعلم هذا صحيح، لا بأس يا ابنتي سأذهب الي الجامعة للسؤال عنها، ربما كانت على عجلة من أمرها ولم تستطع اخباري.

وصل إليه صوت صديقة ابنته الحميمة مطمئنا اياه:

- لا تقلق عليها يا عمي، انا واثقة أنك ستجدها في الجامعة منكبة على تشريح إحدى الجثث وجمع العينات.

هز رأسه وهو يقفل الهاتف متنهدا بقلق، لا يدري لما يجتاحه هذا الهاجس المخيف، وبالفعل اتجه والد سلمى الي الجامعة وسأل عنها أساتذتها وزملائها وصديقاتها، ولكن جميعهم أخبروه بأنهم لم يشاهدوها اليوم، حتى أن المحاضرة انتهت دون أن تستطيع حضورها، وقالت إحدى صديقاتها بدهشة:

- سلمى لا تتغيب ابدا عن محاضراتها، فهي ستفضل الموت على التغيب عن أي محاضرة، هذا ليس طبعها أبدا.

سأل والد سلمى وقد شعر بنفسه كغريق يتمسك بقشة:

- ألم تخبرك بشيء ابدا، تذكري اي شيء ارجوكي، قد يكون هناك أمرا بسيطا أخبرتك به، ربما يساعدنا في العثور عليها!

ولكن دون فائدة، فقد بحث عنها الي أن انتصف النهار، ومن ثم قرر إبلاغ الشرطة، فلا يوجد حل آخر لديه، وكل لحظة تمضي، قد تعرض حياة صغيرته للخطر، ولكن في مركز الشرطة لما يساعدوه اطلاقا:

- هل يوجد لديك دليل قاطع على اختطافها؟!

هز رأسه يائسا:

- لا يوجد لدي ما يثبت ذلك، ولكني أشعر...

قاطعه ضابط الشرطة معارضا بشدة:

- أسف يا سيدي، انا لن أستطيع مساعدتك بشيء، نحن هنا نتعامل بالحقائق والادلة، وليس بالمشاعر، وبالرغم من ذلك لا يمكننا نشر القوات والبحث عن ابنتك الا بعد مرور ٢٤ ساعة.

صاح والد سلمى غاضبا:

- لا يمكنني انتظار كل هذه المدة، ابنتي قد تكون في خطر، لن اجازف بفقدانها.

ابتسم الضابط ساخرا، وعاد ليجلس براحة على مقعده الدوار، وأخبر والد سلمى بكل برود:

- ابنتك قد تكون بين أحضان عشيقها( وألقى بعدة صور لفتيات بعمر سلمى أو أكثر قليلا) أنظر، جميع أولئك الفتيات هربو برفقة احبائهم، ولم يجرؤ أحد البلاغ عن اختفائهم لأن هذا سيفتح النار عليهم ويجعلهم عرضة الإهانات والعار والفضيحة، لذا انصحك بان تنتظر في بيتك وانا واثق من عودتها اليك.

نفى والد سلمى هذا الادعاء الكاذب على ابنته والدموع تفيض من عينيه الذابلتين:

- أنا أثق بابنتي كثيرا، سلمى مستحيل أن تفعل ذلك، أنها ابنتي وانا أعرفها جيدا.

هز ضابط الشرطة رأسه بنفاذ صبر، وأشار له بالرحيل والعودة الي بيته وان ينتظر منه اتصالا، ليخبره بالمستجدات، وبالفعل عاد والد سلمى الي بيته ضعيفا هزيلا خائب الأمل، مرت الايام بسرعة متتالية ووالد سلمى لم يفقد الأمل ولو للحظة بعودتها، فقد نشر خبر اختفائها بالجرائد والصحف وقنوات الأخبار، عله يجدها، أو أحد يستطيع أن يرشده الي مكانها، ولكن دون جدوى، فقد انقضت حياته هائما في الشوارع والمراكز والمشافي، وفي كل مرة يعود خالي الوفاض، وبعد ستة أشهر وجد والد سلمى من قبل الجيران في غرفة مكتبه وقد فارق الحياة أثر نوبة قلبية حادة داهمته وهو يحتضن صورة ابنته الوحيدة.

خيل لسالم أنه سمع صوت نحيب وبكاء حاد، ولكنه حينما أرهف السمع مجددا تأكد من وجود فتاة تبكي بحرقة تحت شجرة السرو الضخمة، بعد تردد قصير تقدم منها سالم بابتسامته الودودة، عارضا عليها مساعدته:

- آسف لتطفلي! هل يمكنني مساعدتك بشيء.

نظرت إليه زينب بعيون دامعة كئيبة، وبعد أن تفقدته بنظراتها الحزينة عادت لتذرف الدموع مجددا وبحرقة اكبر والم أشد، تنحنح سالم ليجلو صوته ويصبح أكثر وضوحاً، فقد بدا واضحا على الفتاة أنها ليست من هنا، جلس أمامها القرفصاء وحاول معها مجددا والفضول يتآكله لمعرفة سبب بكائها.

- آنستي؟! أخبريني سبب بكائك كي أستطيع مساعدتك!

عادت زينب لتتفحصه بعيونها الدامعة، وقد شكت فيما إذا كان هذا البستاني يعني ما يقول، أم أنه يحاول التقرب منها ليس الا، وبعد تردد بسيط قررت أخباره بمشكلتها.

- هل حقا يمكنك مساعدتي؟!

أومأ برأسه مشجعا اياها على الحديث، وهنا بدأت زينب بسرد حكايتها:

- لقد درست للاختبار مدة شهر كامل، وقد كان سهلا جدا حتى اني لم اشتكي منه أبدا، ولكن لا أعلم كيف رسبت في هذا الاختبار، انا واثقة بأن هناك خطأ في التصحيح، أو أن الأستاذ قد وضعني في رأسه، فزور نتيجة الاختبار النهائية، يا الهي إذا رسبت في هذه المادة لن أستطيع التخرج من هذه الجامعة!

وعادت زينب لذرف دموع القهر والحزن، سالم أمعن النظر بها جيدا، بنظره هي تذرف دموع التماسيح، وهو سيتظاهر بأنه وقع في شباكها وسيحاول مساعدتها، كي يصل في النهاية الي مبتغاه.

- لا تقلقي! مادة الأحياء هذه استاذها من أعز أصدقائي، ما رايك أن أعدل لك درجتك واحولها الي علامة كاملة؟!

فغرت زينب فمها بذهول وتسائلت بأمل:

- هل يمكنك هذا حقا؟!

أومأ برأسه مبتسماً، وحينها قفزت زينب من السعادة، فهي لم تتوقع ابدا ان يكون خلاصها على يديه، حينها طالبها سالم بمبلغ من المال مقابل تعديل علامتها، ولكن زينب لم تكن تهتم لأمر المال كثيرا في مقابل نجاحها، لذا وافقت بسرعة.

في اليوم التالي جلبت زينب المبلغ الذي طلبه سالم مقابل تعديل مجموعها:

- هاك المال، أرجو أن لا تتأخر كثيرا في تعديل العلامة، فبعد الغد سوف يحسم الاستاذ جميع الدرجات، أرجو أن تقوم بتعديلها قبل ذلك.

ابتسم سالم وهو يسحب المال من يدها، ويخفيه داخل سترته الرمادية، وأكد عليها بثقة:

- لا تقلقي فلن أتأخر ابدا.

ومنذ تلك اللحظة حاول سالم مرارا وتكرارا الوصول إلي اوراق هذا الاستاذ الصارم، ولكن دون جدوى، فقد أشيع بالجامعة، بأن هناك من يسرب أوراق الاختبارات وأسئلتها، لذا كان هناك تشديد محكم على المكاتب التي تحوى أوراق الاختبارات وكل ما يختص بها، وهذا بالطبع لسوء حظ زينب.

مضى اليومان سريعا جدا، وكانت زينب بانتظار رسالة من سالم بأن الموضوع قد انتهى وقد قام بتعديل درجاتها، ولكن سالم كان يتهرب منها إلى أن قررت زينب الذهاب الي المطبخ حيث يقوم بإعداد القهوة للعاملين في الجامعة:

- بيننا اتفاق يا سالم، أما أن تنفذه أو تعيد لي مالي، لا يوجد لديك خيار ثالث.

تنهد سالم بضجر، فهو لم يعتد أن يعامل بهذه الطريقة:

- أخبرتك بأنني سأعيد اليكي نقودك في أقرب وقت، فقط أعطني فرصة.

صاحت زينب ساخرة بغضب:

- فرصة من أجل الهرب مجددا، سالم فلتستمع الي، لديك مهلة حتى يوم الاثنين، أما أن تعيد مالي، أو أخبر هيئة التعليم بأنك الشخص الذي قام بتسريب الامتحانات للطلاب.

القت بكلماتها الفظة بوجهه واختفت من أمامه بالحال، وتركته خلفها يكاد ينفجر من شدة الغيظ والغضب.

كانت زينب تحادث صديقها على الهاتف، وطلبت منه مرافقتها الي المشرحة:

- هل انتي واثقة بأنك ستجدين طلبك هناك؟!

أكدت زينب لمحمد بثقة لم تكن لديها حقا:

- بالتأكيد، فجميع الفتيات يحصلن على الاعضاء من هناك، وهم من أرشدوني لهذا المكان، والان أخبرني، هل سترافقني؟!نعم ام لا؟!

وصلت إلي مسمعها ضحكته اللطيفة ودغدغت حواسها برقة:

- طبعا يا حبيبتي المجنونة، سأكون أمام بيتك في السابعة مساء.

أغلقت زينب الهاتف وهي تكاد تطير من السعادة. أخرجت أختها التوأم زهرة رأسها من تحت الأغطية وهتفت منزعجة من صخب شقيقتها التي تكبرها بدقيقتان فقط:

- زينب؟! انا احاول النوم هنا؟! هلا خرستي أرجوكي!؟

نظرت إليها زينب بعبوس وانقضت عليها تمازحها وتضربها بالوسائد المحشوة بالريش:

- هاي انتي ايتها الكسولة، حالما أتخرج من هذه الجامعة سوف أقوم بعمل ابحاث وتجارب على جمجمتك الغليظة هذه واعرف سبب كسلك و نومك في وضح النهار.

تذمرت زهرة وهي تحاول دفع زينب وأبعادها عنها، ولكن دون جدوى:

- أنها القيلولة ايتها الغبية، الجميع يحصلون على قيلولة بعد الغداء، فلما لا يمكنني الحصول على واحدة.

دخلت والدتهم الغرفة فجأة منزعجة من صراخهم، ووبختهم بشدة وهي تبعد زينب من فوق شقيقتها التوأم:

- متى ستكبران وتعقلان أنتما الاثنتان، لا يمكنكما الاستمرار على هذا المنوال.

قالت زهرة بدلال مبالغ فيه:

- أمي هي من بدأت أولا، لم تسمح لي بالنوم من شدة صخبها هي وصديقها المخبول.

اتسعت عينا زينب بصدمة:

- لا تنعتيه بالمخبول أيتها الكسولة...

وحينما همت زهرة بالرد على شقيقتها صاحت والدتها لتوقفهما عن الشجار:

- كفى! زهرة اعدي لنا ابريق من الشاي، سوف الحق بك انا وزينب بعد قليل.

نظرت إليهم زهرة بضجر وذهبت الي المطبخ متذمرة، فلطالما شعرت زهرة بأن والدتها تحب شقيقتها الكبرى أكثر منها، لربما السبب في هذا ذكائها الخارق وسرعة بديهتها بعكسها هي تماما.

سالتها والدتها حالما غادرت زهرة الغرفة:

- ماذا فعلتي مع البستاني؟! هل سيعيد لك المال؟!

ابتسمت زينب برقة واخبرت والدتها بما حدث بينهما، هزت امها راسها براحة، فقد كانت تنوي التدخل لحل هذا المشكلة، ولكنها أرادت لابنتها الاعتماد على نفسها وتخليص نفسها من المشاكل التي تواجهها:

- هذا جيد! إذن ابقيني على اطلاع بجميع ما يحدث، دعينا ننتهي من هذه المعضلة.

احتضنت زينب والدتها من وسطها وقبلتها فوق وجنتيها برقة:

- لا تقلقي يا والدتي العزيزة، سانهي الأمر حتما، يمكنك الاعتماد علي بذلك.

ابتسمت والدتها بفخر قائلة:

- أعلم بأن لدي فتاة تسوى الف رجل.

اتجهت زينب برفقة صديقها محمد الي المشرحة، وفوجئت حينما وجدت سالم يعمل بها بدوام ليلي، كانت الساعة السابعة والنصف مساء، حينما وقعت عيناها على سالم، اقترب سالم منها وسألها بضيق:

- ماذا تفعلين هنا؟!

شعرت زينب بعدم ترحيبه بها، ولكنها هنا من اجل أمرا اخر لا يتعلق بالمال الذي تطالبه به، انحنت إليه هامسة، وهي تتشبث بذراع صديقها:

- لقد أخبروني بأنني استطيع الحصول على جمجمة حقيقية من أجل مشروع تخرجي، هل يمكنك مساعدتي في هذا الامر؟!

حدق سالم بيدها التي تتشبث بذراع صديقها، وقد شعر بضيق يتغلغل داخله، ولكنه أخفاه جيدا، بابتسامة مهذبة خبيثة:

- بكل تأكيد يمكنني ذلك، ولكن ليس الآن، بامكانك العودة بعد ثلاث أو أربع ساعات أو الافضل ان تنتظري مني اتصالا.

اومأت زينب بحماسة، وهي تغادر برفقة صديقها محمد، فإن استطاع سالم مساعدتها في الحصول على جمجمة، سوف تسامحه بشأن المال الذي لم يستطع إعادته لها.

كانت زهرة تغط في نوم عميق، بينما زينب تنتظر اتصالا من سالم، وبالفعل حالما رن الهاتف سارعت زينب بالاجابة، وعلى الفور ارتدت ملابسها وطارت لتحصل على جمجمتها المنشودة، وفي ذلك اليوم أيضا دخلت زينب المشرحة ولم يراها أحد تغادر منها أبدا.

والدة زينب لاحظت تغيبها منذ الأمس، فقد غفت على الأريكة بانتظار عودة ابنتها، ولكن زينب لم تعد ابدا تلك الليلة، وعلى الفور ذهبت الي الجامعة حيث تدرس ابنتها، ولكن الجميع أخبروها بأنها لم تأتي بعد أو لم يشاهدها أحد بالانحاء، اتصلت على محمد وسألته عن المكان الذي ذهبا إليه سويا آخر مرة، وقد كان محمد قد أصابه القلق عليها أيضا، فسارع ليرافقها الي المشرحة، هناك التقت والدة زينب بسالم، لم يكن قد غادر بعد، أوقفه محمد سائلا اياه:

- انا الشخص الذي أتى برفقة زينب بالأمس! فتاة الجمجمة، هل تذكرها؟!

تردد سالم قليلا وهو ينتقل بنظراته من محمد إلى والدة زينب ومن ثم قال ببرود:

- أجل أذكرها، ماذا بشأنها؟!

ساله محمد بنفاذ صبر:

- هل عادت اليك مجددا بعد رحيلي معها؟!

اجاب سالم ساخرا:

- لا لم تعود! هل لا تستطيع ايجادها؟! ربما اختفت مثل سابقاتها، فالفتيات هذه الأيام يصعب الوثوق بهم.

شعرت والدتها بالغضب ومحمد أيضا على حد سواء وصاحت به بحدة:

- ابنتي يستحيل أن تفعل هذا، ومن تكون انت كي تلقي بهذا الاتهام عليها؟

كان سالم ساخرا كارها حاقدا، وقد بدأ ذلك جليا جدا على وجهه، ولم تشعر والدة زينب بالراحة له ابدا، ذهبت والدة زينب برفقة محمد الي مركز الشرطة وقاما بفتح محضر باختفاء زينب، ولكن نظرا لحوادث اختفاء الفتيات المتكررة فإن الشرطة لم تأخذ الموضوع بجدية، لذا لجأت والدة زينب الي القضاء والمحاكم العليا، ولم تترك بابا الا طرقته إلى أن وجدت لمطلبها صدى، وفتحت محضرا باختفاء ابنتها بشكل غامض ومريب وتطرقت والدة زينب الي مواضيع كثيرة حدثت في حياة ابنتها فكل معلومة مهمة مهما بدت صغيرة وتافهة:

- مالذي يجعلك متأكدة جدا بأنها لم تقم بالهرب، كزميلاتها؟!

قالت والدة زينب بثقة كبيرة:

- انا وابنتي اعتدنا التحدث في كل صغيرة وكبيرة، لم تخفي عني شيئا أبدا، يستحيل أن أصدق شيئا سيئا كهذا عن ابنتي، فلا احد يعرفها أكثر مني!

راقبها الظابط وحيد بهدوء مريب، وسألها بغموض:

- مما أخبرتني به سيدتي، فهمت بأن ابنتك ليس لها أعداء أبدا، لماذا تؤكدين بأنك هناك حدثا سيئا أصابها؟ على اي أساس بنيتي هذا الكلام؟!

تنهدت السيدة بأسى، فبداخلها تعلم جيدا أن طفلتها لن تعود ولكنها أرادت وبشدة أن تكتشف ماذا حدث لها تماما وما أصابها، وقد رأت في هذا الظابط الجديد بصيص أمل للعثور على ابنتها مسحت الدموع الصامتة التي انحدرت فوق وجنتيها وبدأت:

- زينب لطالما أحبت الدراسة وتفوقت بها، بحياتها لم تحصل على درجة واحدة متدنية، في الجامعة كانت طالبة جيدة، كانت متعطشة لجمع المعلومات العلمية والطبية، درست ليلا ونهارا، وخرجت الي الاختبار بثقة شديدة، حينما عادت كانت سعيدة جدا، فقد ضمنت النجاح بمجهودها الخاص، ولكنها فوجئت هي والعديد من زميلاتها، بعلاماتهم المتدنية جداً، وحينما طالبو بإعادة تصحيح أوراقهم، رفض المعلم بشدة وأخبرهم بأنه سينظر في هذا الشأن لاحقا، عادت إليه زينب في وقت آخر لترجوه، وتتوسله أن يعيد النظر في أجوبتها، وحينها أكتشفت هدفه السيىء من تزوير العلامات، ابنتي رفضت الانصياع لمطالبه لهذا لم تنجح بالمادة.

ضاقت عينا الضابط بتفكير عميق وسألها عن اسم الطبيب ليرسل في طلبه:

- ألم يخطر في بالكم اللجوء إلي الشرطة لحل هذه المعضلة؟!

ابتسمت والدة زينب بأسى، وعادت بذاكرتها لصغيرتها وهي ترجوها:

- أتوسل اليكي امي، لا أريد أن يذهب تعبي سدى، دعينا نبلغ الشرطة لتساعدنا.

اعترضت والدتها بحدة:

- هل تعتقدين بأنه أمرا سهلا، سوف تتعرضين للاتهامات الكاذبة ولن يصدقك احد، فأنت طالبة وهو دكتور جامعة، هل سياخذون كلماتك مقابل كلماته، سو تتدمر سمعتك وتتعرضين للفضيحة، بالنسبة لي أفضل رسوبك في الاختبار على ذكر اسمك في مركز شرطة.

تفهم الظابط وحيد موقفها، ففي المجتمع العربي، لا يوجد لديهم شيء أهم من سمعتهم، لذا يتغاضون عن الظلم الذي يحل بهم في سبيل العيش بسلام، إعتدل الظابط في جلسته ليناولها كأسا من الماء، تناولت والدة زينب رشفات صغيرة ومن ثم عادت لتتابع قصتها:

- أخبرتني ابنتي أنها أثناء بكائها في ساحة الجامعة تقدم منها البستاني وعرض عليها مساعدتها في تعديل علامتها مقابل مبلغ من المال، ابنتي وافقت على الفور، لأنها تعلم بأنها تستحق النجاح، ولكنه لم يفعل لذا طالبته بإعادة المال اليها، وحينما رفض هددته بإبلاغ الشرطة، أنا لدي شعور قوي يؤكد لي تورطه باختفاء ابنتي.

كان سالم يتصبب عرقا في انتظار رحلته التى حجزها ليفر هاربا الي السودان موطنه الأم ، كان سالم يتلفت حوله بخوف، يخشى ظهور أفراد الشرطة بأي لحظة ليجروه الي حبل المشنقة بتهمة القتل المتعمد، حالما سمع اسمه ينادى بمكبرات الصوت وقف على عجل يحمل حقيبته الصغيرة التي أعدها على عجل ليذهب للصعود الي الطيارة، وهناك أحاط به رجال الشرطة من كل جانب وسحبوه الي التحقيق بتهمة التزوير وتسريب أوراق الاختبارات وسرقة أعضاء بشرية من حديثي الوفاة بالمشرحة، وهنا شعر سالم بالراحة وسار معهم بكامل إرادته الي مركز الشرطة، أثناء التحقيق معه كان يدلي بأقواله بهدوء واعترف بذنبه في تسريب الاختبارات والسرقة، بينما عمد الظابط وحيد بإرسال قوة الي المشرحة لتفتيشها، الا انهم لم يجدو شيئا مريبا فيما يتعلق باختفاء الفتيات، لذا حكم عليه بالسجن مع ايقاف التنفيذ، وبقي سالم حرا طليقا مع تقييد سفره الي اي مكان خارج البلاد، ولكن والدة زينب أصرت على أن هذا البستاني وراء اختفاء ابنتها، أعاد الظابط فتح تحقيقا جديدا باختفاء زينب تحت إصرار والدتها، وأمر بإحضار سالم مجددا، لم يتطرق الظابط الي ذكر زينب أبدا، مما جعل سالم يشعر براحة أكبر وكانت جميع أسالته في التحقيق تدور حول ذنبه في التسريب والتزوير، وأثناء استجوابه لم تفارق الابتسامة وجهه، فقد كان باردا لا مباليا، سعيدا جدا بابتعاد التحقيق عن اختفاء الفتيات اللاتي قتلهم بدم بارد، كانت غرفة الاستجواب معتمة يتسلط الضوء فيها فوق وجه سالم فقط فيما يحيط المكان نور خفيف يتسلل من شق الباب المردود بخفة، وأثناء الاستجواب فتح الباب بهدوء على مصراعيه وخطت الي الداخل، فتاة جميلة مألوفة جدا لسالم، لم يلتفت أحد لدخولها ولم يشعر بها أحد سوى سالم، الذي أخذ يراقب دخولها بعبوس الذي تحول تدريجيا إلى صدمة وخوف، وقد بدأ جسده بالتعرق والارتجاف بقوة ملفتة للنظر، أمسك بكأس الماء محاولا ارتشاف القليل منه ولكن محتويات الكاس انسكبت لتغرق يده المرتجفة وملابسه الجافة، اكتفى الظابط وحيد بمراقبة ردة فعله بينما وقفت الفتاة بعيدة عنه تراقبه بنظرات غاضبة مهددة متوعدة، أعاد سالم الكأس الي الطاولة ناظرا الي الظابط الذي تابع استجوابه بهدوء قاتل متجاهلا دخول الفتاة تماما، كأن لم يقاطعهما أحد:

- كم كنت تتقاضى من الأجر لقاء تسريب أوراق الاختبارات؟!

جحظت عينا سالم بشدة فيما زاد ارتجافه وخوفه وقد تركزت نظراته على الفتاة الغاضبة التي تقف خلف الظابط بثبات وكأنها شبح،أو كائن فضائي من عالم آخر، ارتفعت يده ببطأ مشيرا الي الفتاة برعب وقد خرجت كلماته متقطعة لاهثة، وعيناه تزداد اتساعا وهلعا:

- تلك الفتاة...خلفك...أنها ميتة...

تسائل وحيد بهدوء بارد ناظرا الي حيث يشير سالم، نظر إلي الفراغ خلفه وعاد بنظراته الي سالم المرتعد خوفا:

- عن أي فتاة تتحدث، من هي الفتاة الميتة؟!

وهنا أنهار سالم وفقد صوابه وقف بسرعة خائفا مرتعبا وقد تراجع للخلف إلى أقصى مكان بالغرفة وأخذ يصرخ:

- ابعدوها عني...لقد عادت لتنتقم مني ، لقد قتلتها بيدي، أنها ميتة( تقدمت الفتاة منه بغضب والدموع تلمع في عينيها، فصرخ سالم مغطيا وجهه بيديه) لا تقتربي مني، ابتعدي، أنتي ميتة، انا قتلتك بيدي هاتين.

وقف الظابط وحيد معلنا انتهاء التحقيق وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة نصر ودهاء، فقد انتزع من سالم اعترافا مؤكدا بجريمته، استدعى رجال الأمن ليقوموا بتقييده وتهدئته فيما اصطحب زهرة التي انفجرت بالدموع حزنا على موت شقيقتها الي الخارج، احتضنتها والدتها التي كانت تشاهد الاستجواب من غرفة أخرى برفقة خمسة آخرين من الظباط ومحمد صديق ابنتها، الذي بدوره حاول التخفيف عن الام وابنتها ومواساتهما في فجيعتهما.

بعد عدة ساعات كان سالم قد هدأ تماما، وأصبح بإمكانهم استجوابه بهدوء، وقد كان متجاوبا في التحقيق تماما وأخذ يجيب عن الأسئلة الموجهة اليه، بثقة وغرور وكأنها أحداث من فيلم سينمائي لا علاقة له بها:

- كيف قتلتها واين أخفيت جثتها؟!

ابتسم سالم واجاب بهدوء:

- قتلتها بالمشرحة! فقد كان المكان الأنسب لنجاح خطتي!

ارتفع حاجبا وحيد بفضول:

- لكنا قمنا بتفتيش المشرحة جيدا جدا، ولم نجد أثرا لاي جثة أو أمرا مريب!

ضحك سالم بسخرية شديدة قائلا:

- هذا لانكم حمقى! لم تقومو بتفتيش البالوعة! حتى لو فتشتوها، لم تكونو لتجدو شيئا.

قال وحيد مبتسما بخفة، مشجعا اياه على الاستمرا بالحديث:

- اشرح لي ذلك! كيف نجحت باخفاء اثار جريمتك بهذه الدقة والمهارة؟!

كان سالم يشعر بالفخر والحبور، فهناك من أطرى عليه وأشاد بمهاراته وأدائه، ضحك بشدة وأشار لوحيد أن يقترب منه قليلا ليهمس له بسر خطير، انحنى وحيد نحوه ليستمع إلى اعترافه الخطير، وقد اتسعت عيناه بصدمة لهول ما سمع:

- أنها ليست جريمة واحدة، لقد كانو أثنى عشرة فتاة.

وتراجع سالم في مقعده ضاحكا بهيستيرية وهو يصفق بيديه مثنيا على عمله المتقن، بينما شعر وحيد برغبة قوية بتحطيم وجهه وإزالة تلك الضحكة الماجنة عن ملامحه الشيطانية المخيفة، الا انه تماسك وتراجع في مقعده وانتظر بصبر فارغ توقف سالم عن ضحكه الهستيري ليتابع سرد جرائمه واحدة تلو الأخرى:

- لم أكن أنوي سلوك هذا الطريق ابدا، بل اني لم أخطط له مطلقاً، أردت فعلا أن يحبني الجميع لأجل شخصي، وليس لأجل ما أفعله لهم، ولكن تلك الفتيات الفاسقات هم من دفعوني لذلك، كانت نظراتهم الي محتقرة مهينة، شعرت برغبة في اذلالهم واخضاعهم، أردت أن انتقم منهم لكرامتي، كل ما كنت افكر به هو الاعتداء عليهم فقط،لذا قمت بتخدير ضحيتي الأولى واغتصابها ولكن حينما انتهيت، أدركت عواقب فعلتي، وعلمت باني لو تركتها حية فستبلغ الشرطة وأزج بالسجن مدى الحياة.

انحنى ليتناول زجاجة الماء الموضوعة أمامه وأرتشف منها حتى ارتوى، ومن ثم تابع وهو يشعر بفخر لفكرته الجهنمية وسأل المحقق بغرور:

- هل تدرك ما يمكن أن يفعله الأسيد بجثث البشر، أنه أمر مذهل، فقد كنت أتوق لتجربته على إحدى جثث المشرحة ولكني لم أجرؤ، فجميع الجثث كانت مسجلة ولا يمكنني العبث بها، ولكن تلك الفاسقة الأولى لم يعلم عنها أحد ولم تكن مسجلة، ولا أحد يعلم بلقائنا بالمشرحة، لذا كانت هدفا مناسبا تماما، كانت ما زالت تتنفس حينما قمت بشق رقبتها بسكيني الحادة، كان الأمر أشبه بذبح حمل رضيع، لا تعلم ما الشعور الذي انتابني وهي تنتفض لافظة أنفاسها الأخيرة كحمامة مذبوحة، لقد انتابني شعور هائل بالعظمة والقوة، شعرت وكأني الها املك أرواح البشر وأتحكم بها.

حدق سالم بنظرات وحيد المشمئزة وهتف ساخرا:

- انت لا تعلم ما يفوتك، عليك تجربة هذا الشعور في وقت ما، أنه كإعادة الحياة الي جسدك من جديد.

سحب سالم نفسا عميقا إلى رئتيه لينتفخ صدره بالهواء وعاد ليزفره ببطىء حالم وهو يعود لمتابعة سرد جريمته الوحشية.

- عند رؤيتي لانبثاق الدماء من عنقها، شعرت بقوة خارقة تجتاح جسدي، شعرت برغبة عارمة لتصفية كل دمها من جسدها، الشعور بدفىء دمائها ولزوجته فوق راحتي جعلني أرغب بالمزيد، ودون شعور بدأت أوجه لها طعنات عميقة حادة في جميع أنحاء جسدها، حتى انبثقت الدماء كالنبع الاحمر الصافي وغطت جسدها بالكامل.

وجه نظراته الي عيني الظابط مباشرة وانحنى نحوه متسائلا بحماسة:

- هل سبق لك أن شممت رائحة الدماء، أو حتى تذوقت طعمها( سرح بخياله بعيدا، وكأنه يعود إلي مسرح جريمته المخيف) كانت المرة الأولى لي، انا كنت أشمئز من طعم دمائي حين تنزف لثتي واسارع بغسل فمي مرارا وتكرارا حتى اتاكد من انقطاع الدم تماما( اتسعت ابتسامته بضحكة شيطانية مخيفة وعيناه السوداوان تلمعان بشهوة وجموح) لكن دمها كان له طعم آخر تماما، فقد كان شهيا لذيذا، ذو مذاق حلو لاذع، لا تنظر إلي هكذا، فلست مصاص دماء، لم أشرب دمها متعمدا أبدا، ولم أعبئه في زجاجات واخفيه بالثلاجة، لا لم افعل ذلك، بل تناثر دمها بفعل ضربات السكين الحادة وغطى وجهي وعيوني واخترق فمي ورغما عني تذوقته واستمتعت كثيرا بطعمه حتى اني لعقت يداي بشراهة بعد انتهائي من تقطيعها الي أشلاء صغيرة متناثرة.

لم يحتمل وحيد سماع المزيد، فقد كان يتظاهر بالصمود والاحتمال، لم يفكر ابدا بأن الشخص الجالس أمامه قد وصل إلي هذه المرحلة من الاختلال النفسي والعقلي، فقد فاق وصفه لجريمته توقعاته، وخرج مسرعا الي دورة المياه مفرغا جميع ما بمعدته من بقايا وجبة عشائه السابقة، حتى شعر وكان روحه ستخرج من جسده، لحق به أحد زملائه الظباط، أخذ يربت على ظهره مهدئا اياه متعاطفا معه، وكانت ردة فعله قوية غاضبة، إذ أنه صرخ باعلى صوته مفرغا غضبه بركل الجدار ولكمه حتى آلمته يداه ونزفت دماء حارة لزجة أثارت اشمئزازه مجددا.

- ما رايك أن أتابع معه سير التحقيق، سيكون بإمكانك أخذ قسطا من الراحة، أن القضية أصبحت منتهية تقريبا.

رفض وحيد عرض صديقه بشدة:

- هذا مستحيل، سأستمر معه الي النهاية، كي أوصله بيدي هاتين الي نهايته المحتومة، ذلك الوحش البشع، ستكون نهايته على يدي.

عاد إلي غرفة الاستجواب ليجد سالم يتجول بالغرفة يداه مقيدتان بكلبشات حديدية وتحيط أقدامه سلاسل حديدية طويلة تقيد قدميه بما يسمح له بالتجول بخطوات قصيرة صغيرة، نظر سالم إليه مبتسما، وعاد ليأخذ مكانه خلف الطاولة، قائلا بسخرية مريرة:

- اه يا سيدي الظابط، أن قلبك حنون جداً، لقد جعلتني أتذكر طفولتي، فقد كنت يوما ما بريئا نقيا مثلك، ولكن كيف لطفل في التاسعة من عمره أن يحافظ على برائته ونقاءه وهو يشاهد والده يقتل أمه ويقطعها الي أشلاء هي وعشيقها، ليدفنهما بعد ذلك في حديقة المنزل تحت زخات المطر المتناثرة، أن الحياة قاسية جدا، فليس الجميع ولد بعائلة سوية محبة مثلك يا سيدى الظابط.

ساله وحيد باشمئزاز واضح، وهو يجلس مقابله ببرود:

- وهل هذا مبررا لأن تقوم بفعلتك الشنيعة تلك؟!

ضحك سالم بمرارة وهو يهز رأسه بأسف:

- ليس مبررا أبدا، ولكني كنت أرى وجه امي الفاسقة في وجوههم، لم أكن انظر اليهم فعليا، بل كنت أنظر الي امي وأقتلها بيدي وانتقم لوالدي منها بسبب استهتارها به وسخريتها منه، لم أراهم أبدا أثناء قتلهم، جميعهم كانو يحملون وجه امي، لذا لم أشعر بذرة تأنيب واحدة وانا اقوم بتقطيعهم، وسكب الأسيد فوقهم، بل كنت اتلذذ بمراقبة أشلائهم تذوب تماما الي أن تصبح مادة سوداء لزجة ليسهل بعدها علي التخلص منها في بالوعة الصرف الصحي، كان الأمر مسليا جدا، بل غاية في المتعة والإثارة.

حسنا إذا هذا ما كان عليه الأمر حقا، فقد سخر سالم من الشرطة وتلاعب بهم بذكاء وانتهز ظاهرة هروب الفتيات مع عشاقهم ليتستر على جرائمه البشعة، مستغلا خوف عائلاتهم من الفضيحة والعار الذي سيلاحقهم لسنوات طويلة بسبب تصرفات بناتهم اللامسؤولة، كما أنه وفق في اختيار مسرح جرائمه، بعيدا عن البشر مخفيا عن العيون، مكان يخشى الناس الطبيعين دخوله أو الاقتراب منه لذا كان يأخذ وقته بالتمثيل بجثث ضحاياه، بعد عدة أيام ذهب سالم برفقة أفراد من الشرطة ومعهم الظابط وحيد الذي قام باستجوابه والتحقيق معه وقام سالم بتمثيل جرائمه الاثنى عشر وروى بالتفصيل كيفية تخلصه من جثث ضحاياه، فقد ثبت الأمر واذيع بالأخبار والصحف مع صورة كبيرة لسالم مقيد بالسلاسل شاخصا نظره الي الكاميرا وفي عينيه نظرة وحشية لا تنم عن الندم أبدا، مما أثار غضب أهالي الفتيات المفقودات الذين خرجوا بمظاهرة هائلة مطالبين القضاء بأخذ حق بناتهم من هذا السفاح القاتل وانزال أقصى عقوبة به ليكون عبرة لمن يعتبر.

جلس الظابط وحيد في مكتبه بعد أن نطق القاضي بحكم الإعدام ضربا بالرصاص أمام أهالي الضحايا المغدورين، وقد علت الهتافات بالنصر والزغاريد عند نطق الحكم، عدة طرقات ضعيفة طرقت فوق باب مكتبه لتدخل والدة زينب بعبائتها السوداء التي تغطيها من راسها حتى أخمص قدميها، وقامت بشكره بكلمات قصيرة ممتنة وابنتها زهرة تمسك بيدها وتشد عليها:

- أنا أشكرك من كل قلبي يا ولدي، فولاك لظل هذا المجرم حيا يقتل المزيد من الفتيات البريئات، انت أنقذت الالاف مثل زينب وسلمى وماجدة والعديد غيرهم، الآن أصبح بامكاني متابعة حياتي انا وابنتي بسلام، شكرا جزيلا لك.

كان الظابط محرجا جدا وسعيدا جدا لنيله كل هذا التعظيم والامتنان لوحده، فقد كانت زهرة هي العامل الأساسي في اكتشاف القاتل، وعاد بذاكرته للمرة الأولى التي رأى بها زهرة، فقد كانت ترقد بغرفة شقيقتها تبكيها ليل نهار وتتمنى عودتها بفارغ الصبر، حينها لاحظ الظابط الشبه الكبير بين الشقيقتان، لم يكن عليه سوى إضافة بعض اللمسات الصغيرة عل شكلها الخارجي لتصبح تماما صورة طبق الأصل عن زينب، وقد خطرت له هذه الفكرة الجهنمية بأن تدخل زهرة الي غرفة التحقيق وكأنها خيالات أو وهم من صنع سالم، وتعمد تجاهل دخولها كي يحبك القصة تماما ويستطيع خداع سالم، وبالفعل نجح في خطته عندما أنهار سالم صارخا باكيا مرتعدا.

تنهد وحيد بعمق وهو يحتضن والدة زينب المكلومة، وقال لها بكلمات مشجعة وحانية:

- الحق يقال يا والدتي، لولا أصرارك وثقتك بابنتك وسعيك المتواصل لإثبات عدم هروبها لما استطعنا ابدا الامساك بالقاتل، ولكان هرب الي مكان آخر وواصل جرائمه الفظيعة بعيدا عن متناولنا، فالشكر لك وحدك انت وزهرة الشجاعة، أنتما وحدكما من تستحقان الشكر والتقدير.

في اليوم المحدد لتنفيذ الحكم، اجتمع الأهالي والجيران والأقرباء وأحاطو بساحة الإعدام التي أعدت تحت إشراف الظابط وحيد، واستدعى سالم ليمثل أمام الجميع في ساحة الإعدام الحارة بفعل أشعة شمس الظهيرة الحارقة، وتعالت الهتافات مطالبة بتنفيذ الحكم، اقترب وحيد من سالم بخطوات ثابتة حازمة وسأله:

- هل ترغب بقول كلمة أخيرة قبل تنفيذ الحكم؟!

ارتفعت نظرات سالم إليه بابتسامة هادئة، لا يبتسمها الا مجنون فقد صوابه وهو على حافة الموت وقال بدون ندم:

- سارع بتنفيذ الحكم يا سيدي، فلو يعود بي الزمن الي الخلف كنت سأكرر ما فعلته مرارا وتكرارا حتى مماتي.

وأسدل الستار على صوت عدة طلقات نارية اخترقت جسد سالم من كل الجهات ليسقط جسده نازفا فوق الرمال الساخنة وقد ارتسمت فوق شفتيه ابتسامة لن يستطيع وحيد إزالتها من ذاكرته مطلقا.


تعليقات

التنقل السريع