القائمة الرئيسية

الصفحات

 


لقاء تحت ضوء القمر

- تعال الي...أنا بانتظارك...أرجوك لا تتأخر.

فتحت عيناي ببطىء شديد، وعدت لأزفر أنفاسي من جديد، ذلك الصوت العنيد! متى يختفي؟ متى ينتهي؟ متى عن طريقي سوف يحيد؟!

نظرت إلى الساعة حول معصمي، وكانت تشير الى الواحدة بعد منتصف الليل، اتسعت عيناي بصدمة، وعدت بذاكرتي لقبل ايام قليلة، فقد اعتادت ساعتي لأن تتعطل وقتما تشاء وتعود للعمل وقتما تشاء، وتعلن وقت خاطئا في غير وقته، وأحياناً أخرى يكون صحيحا في محله، تلك الساعة كانت هدية من مجهول كانت داخل طردا بريدي، لم أعرف مرسله، فلم يكن هناك عنوان ولا تاريخ أو مدينة، فقط كتب فوق الطرد بالخط العريض( يتم تسليمه يدا بيد لمالكه الدكتور وحيد) وداخل الطرد رسالة صغيرة مطوية بعناية  الي جانب الساعة الفضية، كتب داخلها( لا تتركني )، كم مضى على احتفاظي  بهذه الهدية لم أعد أذكر، وتساؤلي عن هوية صاحبها ذكر ام أنثى لم أعد أهتم، ولما أحتفظ بها حتى هذه اللحظة لم ولن أعلم! كل ما أعرفه أني  لا أستطيع التخلص منها، لا باهدائها ولا ببيعها أو حتى تحطيمها، فقد التصقت بي كالعلقة، ولم أستطيع الخروج أو الذهاب لاي مكان بدونها، فقد كانت تكملني كما كنت اكملها.

نزعت الساعة من معصمي وخاطبتها ساخراً.

- لقد غفوت فوق رمال الشاطىء لبرهة قصيرة، أيتها الساعة الغبية لن تخدعيني هذه المرة!

وخبئتها داخل حقيبتي الكروس الصغيرة، وشددت رحالي لأعود الي منزلي، نفضت تراب البحر الذهبي عن ملابسي، وشققت طريقي وقد استعدت قوتي ونشاطي.

بدأت بالابتعاد تدريجياً عن الشاطىء، فالبرد تسلل الي جسدي خلال غفوتي وتمنيت لو دثرت نفسي بمعطفي قبل خروجي، ولكن قد فات الاوان وعلي الآن الإسراع في العودة وإلا زوجتي أحدثت لي جلبة أنا في غنى عنها، وفجأة غاصت قدماي بالرمال، و لم أقوى على السير فوقه بسلاسة، وكلما جاهدت أكثر كلمات غاصت قدماي أكثر، ماذا يحدث معي؟! فمنذ قليل لم تكن الرمال بهذه الحجم ولا السير فوقها بهذه الصعوبة، لما أقف في مكاني ولا أتقدم؟!، نظرت إلي الرصيف حيث ركنت سيارتي، يا الهي ما هذا البعد، لا أذكر بأني سرت كل هذه المسافة، تنفست بشدة وانا اشحذ قوتي وحين اعتقدت بأني نجحت، هبت رياح عاتية أطاحت بحقيبتي الصغيرة، رغما عني شتمت لاعناً، فلو لم تحوى مفاتيح سيارتي لتركتها ولم أهتم.

عدت ادراجي لها وبسهولة شديدة خطوت نحوها، وكأني قبل قليل لم أكن اعافر للسير فوقها! كنت كلما اقتربت منها، عادت الرياح لتركلها، كان الأمر أشبه بمطاردة قط لفأر، وقفت انظر الى الحقيبة بضجر، ورغم سخرية الموقف الا أنني هددتها:

- أما أن تعودي الي كتفي، أو أقسم بأني لن أعيدك أبدا!

وعدت لاخطو نحوها بحذر، فقد تعبت من ملاحقتها، أعلم بأني أبدو غبيا جداً، ولكني أكاد اقسم بأن لها عينا ترى  وتراقب تقدمي نحوها، وقبل أن اقترب أكثر، ألقيت بجسدي فوقها، وأخيرا حصلت عليها، رفعت يدي التي تمسك بها عاليا بالسماء وهتفت بقوة منتصرا:

- لقد أمسكت بكي.

عدت لارتدائها بأحكام كي لا تعود للسقوط مجدداً، وحالما التفت لأعود ادراجي...لم أبصر شيئا أمامي، فقط ظلام دامس شديد، لو خطوت نحوه سيبتلعني الظلام بالتأكيد، التفت حولي باحثا عن مكان منير، ولكني لم أجد، رفعت نظري الي السماء، اين اختفى القمر، وأين ذهبت نجومه اللامعة، كيف تبدل المساء اللطيف وأصبح بهذه الكآبة في لحظات قصيرة فقط، كان البحر المتلاطم أمواجه من خلفي، ومن أمامي ظلام قاتم السواد لا أجرؤ على التقدم نحوه، تنهدت بأسى وقد فاض بي الكيل وهممت باختراق هذا الظلام، صوت بكاء حزين اخترق أذني، بسرعة التفت حولي، لا وجود لأحد غيري، ارهفت السمع مجددا كي اتأكد، ولكن لا يوجد أحد. على يميني في البعيد لمع ضوء أزرق باهت، تساءلت!

- ما مصدر هذا الضوء؟!

شعرت بقوة خفية تدفعني نحوه بشدة، كأنني فقدت السيطرة على قدمي، ورغما عني استمررت في تقدمي.

شعور أخبرني بأنني سوف أؤذي نفسي ليس أكثر، وبالرغم من ذلك لم أتردد.

فالفضول بداخلي أشد واكبر من أن أتجاهله، وبالرغم من معرفتي بأن تجاهله هو الأفضل الا انني لم أفعل.

كان شوق غريب يشدني نحوه، وكأنه وعد قديم حان وقت  الايفاء به، قادتني قدماي إليه دون أن أشعر.

رأيتها للمرة الأولى هناك تحت ضوء القمر الأزرق وسماءه الحالكة المرصعة بالنجوم اللامعة.

فوق صخرة ضخمة تقوقعت على نفسها، وقد تناثر شعرها الأسود فوق ظهرها، كوشاح حريري يدثرها من لسعات الهواء الباردة وبين الفينة والأخرى  تطير خصلاتها الملساء لتعود وتحط فوق اكتافها مغطية بشرتها البيضاء الشاحبة.

كان الفضول يتاكلني وانا أراقبها برهبة من البعيد، لاحظت ارتجاف جسدها وارتعاش شفتيها المكتنزتين من البرد الشديد.

كانت بجسدها الصغير تتصدى هجمات البرد القارس، وكان ما ترتديه أقل بكثير من القليل.

بتردد وحيرة تقدمت نحوها بخطوات صغيرة، كانت الأفكار اللا عقلانية تتنازعني والخيالات والأوهام  تجتاحني وعقلي بشدة راح ينهرني.

- يستحيل أن تجد بشرا في هذا الوقت من الليل...عد ادراجك...لا تتهور...ليست انسية...أخشى عليك أن تتدمر.

توقفت للحظة قصيرة، كيف يمكنها أن لا تكون بشرية، فالعالم الاخر وخباياه عنا نحن البشر مخفية، لهم عالمهم ولنا عالمنا، يستحيل أن لا تكون انسية، ابتسامة ساخرة خطتها ملامحي بسبب أفكاري الغبية، يا لها من أفكار طفولية تجتاحني وانا من بلغ من العمر عتيا.

ضاربا أفكاري بعرض الحائط، خطوت باصرار متجاهلا صرخات عقلي الغاضب، وتابعت بكل صلف تقدمي.

كنت كلما اقتربت أكثر، اتضحت وبانت لي ملامحها أكثر، فتزيد ضربات قلبي الوجلة حتى خيل لي  بأنه سيقفز خارج صدري ليذروني وحيدا تائها بلا قلب. وبالرغم من ذلك لم أتراجع أو أتعثر.

على بعد خطوتين منها...توقفت...

وبغتةٍ رفعت عيونها نحوي، نظراتها اخترقتني، بعثرتني، وأسرت القشعريرة في جسدي ( يا الهي! ويا لهول ما أرى، سبحان الخالق فوق عرشه استوى ) وقفت مكاني متسمراًً، مسلوب الإرادة ضائعاً.

فوق ملامحها تعاقبت مشاعرها، ما بين صدمة وذهول وبين عبوس وفضول وفجأة اشرق وجهها بابتسامة ساطعة ،أسفرت عن ثغرها القاني، وبفرحة قصوى قفزت وامتثلت أمامي.

الصراعات داخلي تلاشت واختفت، وحروبي التي خضتها زالت  واندثرت.

وبرقة ولطافة مدت الي كفها وهمست:

- لما تأخرت؟! لقد انتظرت طويلا! ولكن هذا لا يهم فقد تلاشى حزني بظهورك أخيرا!

- تنتظرني أنا؟! ( تسائلت بغضب) من اللعين سعيد الحظ الذي تتوقعه، والتصقت فوق صخرة لمنتصف الليل القارس  تنتظره دون كلل أو ملل.

وبادراك محبط أيقنت بأنني لستُ من تنتظر. ضاقت عيوني نحوها  متسائلا! لكن... هل يشبهني كثيرا  لدرجة أن تخطىء بي وتظنني هو؟! زحفت نظراتي فوق جسدها الغض المثير. 

قطعتين صغيرتين من القماش أحاطتا بقدها النحيل، قطعة بنية صغيرة غطت بها صدرها، وأخرى أطول  قليلا أحاطت بها خصرها.

كتمت أنفاسي خشية تحطيم هالة السحر والسكون التي غمرتني، كنت أخشى لو زفرتها، أن تتلاشى من أمامي وتختفي. تدافعت التساؤلات الي ذهني، هل هي حقيقة أم خيال،ام هي حورية خرجت من أعماق البحار، فبحياتي لم أصادف مثلها ولو عشت عمرا فوق عمري حتى الممات.

عادت نظراتي الى كفها الممتد بالسلام لتحيتي، أناملها رفيعة رقيقة، تنتهي بأظافر طويلة، شفافة كالزجاج، لم أقاوم رغبتي أكثر وسارعت يدي لعناق يدها بلهفة وسعادة أكبر.

وما أن لمست يدي أناملها حتى اندفع شعرها متطايرا للخلف بقوة،  وأبرقت السماء من فوقي وارعدت بقسوة، وثار البحر هادرا هائجا، لافظاً أمواجه الغاضبة في أثري.

وصوتا حادا مزمجراً راح ينهرني ويبث الرعب في قلبي:

- عد ادراجك ولا تُجِدْ فغير العناء لن تَجد!

ضغطت فوق يدي برقة، فعدت بسرعة الي ثغرها الباسم، وقد مالت نحوي هامسة:

- لا تخف! انت معي! بحمايتي! وبرفقتي لن يصيبك أذى.

تراجعت عني ببطىء ورفعت أهدابها الطويلة برفق وتابعت بأمر:

- أنظر إليّ!

وليتني لم أنظر! فقد غرقت ببحر آخر، بحر عميق بلون العقيق الأخضر، بحر لم أقوى على انتزاع نفسي منه، بحر لم أرغب بأن ينقذني أحد منه، فقد تسمرت في مكاني وابحرت داخل عينيها وغرقت حتى النخاع في عمقها.

امتدت يداها نحوي لتغلق أذناي  وهمست بصوت ساحر خلاب وارتفع صوتها تدريجيا مع نسمات الهواء بترانيم موسيقية ساحرة، اتسعت عيناي بصدمة حينما رأيت شعرها المخملي يطول أكثر فأكثر ويلتف حولي وحولها كالاعصار، وشعرت بجسدي يرتفع عاليا بالسماء مخلفا غبار كثيفا أسود، شعرها الأسود طار بنا الي منتصف البحر، كنت أسمع أصوات عالية شديدة تأتي من الأسفل، حاولت استراق النظر، فنهرني صوتها معاتبا:

- لا تفعل! فقط أنظر إلي.

احتبست أنفاسي داخل صدري وانا أشعر بجسدي يتجه الي أسفل، الي عمق البحر الأسود، ورويدا رويدا، هبطنا معا حتى القاع وما زالت عيناي معلقة بعيناها.

همست برقة وهي تعيد يديها الي جانبيها:

- الان بامكانك ان تنظر!

وكأن سحرها الذي أسرني بأغلاله قد زال عني واختفى، رفعت عيناي بفضول لأعلى لأرى البحر يطبق تدريجيا من فوقي طبقة تلو الأخرى الي أن أتم سبع طبقات على الحد الاقصى، التفت بنظراتي حول المكان، لو لم ارى بعيني اني في عمق المحيط لأقسمت، بأني ما زلت فوق سطح الأرض، كان عالما آخر، حياة آخرى ولكن دون بشر، فهناك جبال وتلال وغابات وأشجار، وهناك حيوانات وطيور غناء، وفوق كل هذا كله كانت السماء! وفي جوفها لمعت النجوم المتناثرة، اطل القمر بنوره الأزرق ليتوج السماء بضياءه الوهاج، خطوت فوق الارض الصلبة أسفل قدمي، فقد كانت أرضا قاسية خالية من التراب، هل انا حقا في عمق البحر أتبختر؟! نظرت اليها متسائلا أين أنا؟!ومن تكوني؟! هل انتي من الجان ام ملاك من السماء؟!

أخبرتني ببسمة خلابة:

- انت معي أسفل البحار السبعه! وأنا أدعى كهرمانة ابنة ملك البحار! ولست ملاك أو جنية، بل انا أميرة البحار وأبلغ من عمري آلف عام.

اتسعت عيناي بصدمة مرددا:

- ألف عام؟! مستحيل!( واستدركت متسائلا) كيف تجيبين على سؤال  لم أسأله؟!

ضحكت برقة وبغمزة اجابتني:

- احذر! فأنا اسمعك واسمع كل ما يجول بخاطرك! لذا اياك الشتم أو اللعن! فوالدي لا يتهاون في هذا الأمر!

ضحكتها انستني أين أنا ومن انا وماذا افعل هنا؟! رقص قلبي طربا لابتسامتها و تدفق الدم في شراييني لقربها.

ألا يجدر بي الخوف؟!  ألا يجدر بي ان اختنق حتى الموت؟! كيف اكون في عمق المحيط، وانا مازلت اتنفس، وملابسي كما هي لم تتبلل؟! واتسعت عيناي بصدمة، هل انا ميت؟! هل انا روح تائهة؟! هل قامت بقتلي؟!

- لست قاتلة!... توقف، أرجوك،  فلتوقف تدفق أفكارك، يا الهي! أنت  فظيع! 

كان صراخها من أوقفني! نظرت اليها بنفاذ صبر وغضب:

- إذن ما تفسيرك لما انا فيه الآن؟! ما دمتي سمعتي أفكاري فلتجيبيني!

نظرت إلي بدلال:

- وهل ستصدقني أن اجبتك؟!

اللعنة كم هي جميلة!

قفزت بوجهي تنهرني:

- لا تلعن!...هل تغازلني؟!

استدرت مخفياً عنها ملامحي، ورغما عني فهي عادتي، رحت اكيل الشتائم لنفسي، أين المفر من هذه الجنية؟!

- لست جنية يا وحيد! لماذا لا تفهمني؟!

كانت قد استدارت حولي وعادت لتقف في مواجهتي، تلومني بنظراتها الحانقة، كانت أشبه بطفلة صغيرة سلبت منها حلواها المفضلة، تنهدت وانا أجلس في مكاني قربها، وطالبتها بالتوضيح:

- أفهميني إذن! كلي آذان صاغية!

قفزت من الفرحة مصفقة بيديها الاثنتين وتربعت أمامي متسائلة:

- سأخبرك بالتأكيد، ولكن قبل ذلك عليك أن ترافقني، هلا رافقتني يا وحيد؟!

وحيد... مرة أخرى! لما اسمي يبدو جذابا حينما تلفظه شفتيها، أعتقد أنني بدأت أعشق اسمي!

كانت عيناها الزمردية تلاحقان وجهي وتحلل تعابيري، لا فائدة من التفكير بيني وبين نفسي، فأنا مكشوف جدا أمامها، واضحا كوضوح الشمس في منتصف النهار، شعور بالإثارة اجتاحني، لما لا؟! ستكون تجربة مثيرة، وحينما أعود الي سطح الأرض سأخبر عنها أولادي...ولكن؟ هل سأعود؟! لا اعلم ان كنت سأعود حقا الي سطح الأرض! اتجهت إليها  بأنظاري وما أن هممت بسؤالها حتى أسرعت تجيبني!

- ستعود بكل تأكيد! سأوصلك بنفسي الي المكان الذي أخذتك منه...أعدك وعدك أميرة البحار السبعة!

ورغما عني ابتسمت، وتدريجيا تبدلت ابتسامتي الي ضحكة لطيفة، فصاخبة وبالنهاية لم أتمالك نفسي فانفجرت ضاحكا بسخرية، رغما عني ليس بيدي، حاولت التقاط أنفاسي حينما لاحظت تورد وجهها غضبا  واحراجا، اعتذرت في محاولة فاشلة لنيل رضاها:

- أسف حقا، لا اقصد السخرية ابدا، ولكن هلا أخبرتني ما الذي يمتاز به وعد أميرة البحار؟!

كهرمانة كانت غاضبة فعلا هذه المرة...، لا ادري لما عليها التعامل معي، ترى هل هي مجبرة؟! لما وقع اختيارها علي؟! لما لا تبحث عن شخص غيري ليصدق هرائها!

- هراء؟! مجبرة؟!...انت لم تترك لي خيار!

وطرقت باصبعيها الوسطى والابهام، وفجأة وجدت نفسي داخل كرة من الجليد، أسمع وارى جيدا، وأيضا اتنفس بسهولة مطلقة، الا أنني لا يمكنني الحراك ابدا ولا يمكنني الحديث مطلقاً، ابتسمت كهرمانة بسعادة ساخرة:

- هكذا تبدو لي أجمل!...الآن يمكنك أن ترافقني بهدوء!

وحلقت بيديها الناعمتين صاعدة إلى الأعلى، وراقبت اختراق جسدها للطبقة السابعة من البحر، وكرة الجليد التي تحملني، لحقت بها وكأن هناك خيط خفي معقودا بها.

حدقت بها بذهول وانا أراقب اختفاء ساقيها ليحل بدلا منهما ذيل سمكة فضي لامع وكبير، أنها سمكة، أعني حورية، غضبت وازداد غضبي حين لم استطع التعبير عن حنقي، اللعنة! تلك القطعة الجليدية، حينما أصبح خارجها سوف أشعل النار بها!

ضحكت كهرمانة وهي تدور حولي بسعادة، وذيلها الفضي الكبير، يركلني وكأني كرة قدم:

- أنت حقا لست كما تبدو! فمن الخارج تبدو رجلا وقور، وبداخلك لست الا طفلا مغرور.

وعادت لتجدف بيديها وتجول وتصول في عمق المحيط، وقالت لي بفخر وحبور:

- هذه هي مملكتي، انظر جيدا.

أعلم! فليس لدي خيار سوى النظر، فتلك الكرة الجليدية المحتجز بداخلها لا تسمح لي الا بالنظر، اللعنة على حظي العاثر.

همست كهرمانه ساخرة!

- بل لديك خيار!... الصمت والامتناع عن اللعن! 

فكرت فرحا! ما زال بإمكانها سماع أفكاري! هذا رائع فلسوف استرسل في التفكير وازعجها إلى أن  تعيدني الي اليابسة!

أوقفت أفكاري معترضة وهمست بدلال فائق:

- اياك ان تفعل!...الا إذا رغبت أن تتحول إلي ضفدع!

وقبل أن اسألها، فيما لو كان بإمكانها تحويلي الى ضفدع، أجابتني هامسة وكأنها ستعترف بسر خطير:

- هل نحاول ؟! وليكن في علمك... إن الضفادع لا تفكر أبدا!...كل ما تفعله هو النعيق والقفز والتقاط الذباب والحشرات.

خاطبتها بأفكاري مسرعاً راجياً متوسلا، وقد اجتاحني شعور بالغثيان (لن أفكر، لن العن، لن ازعجك ابدا...أعدك بذلك).

ضحكتها عادت لتأسر قلبي من جديد، و عادت لتجدف بيديها في عمق المحيط، واكتفيت  بالمشاهدة وقد جمدت أفكاري كي لا تنفذ تهديدها وتحولني إلي ضفدع قبيح، أخدتني كهرمانة في جولة سريعة، في عمق البحر السابع، اسماك القرش والحيتان، لم ارى حوتا عن هذا القرب، كان حجمه مخيفا مهيب، راقبت كهرمانة وهي تدور حوله تداعبه وتشاكسه، وقد بدت السعادة واضحة من خلال صرخاته المزمجرة، راقبت الاعشاب المرجانية، وراقبت الأسماك الصغيرة التي تتغذى عليها الأسماك الأكبر حجما منها والحيتان وأسماك القرش المفترسة، وفي الأسفل قبعت صناديق الالماس والياقوت واللؤلؤ حيث لا يستطيع الوصل إليها لا انسيا ولا جان، حلقت أعلى حتى خلتها سوف تخترق الأرض، ولكنها كانت في العمق السادس من البحر، حيث كانت الأسماك الأقل حجما من الحيتان بقليل بألوانها الغريبة واشكالها المخيفة، هناك أفعى ضخمة برأس سمكة، وهناك تمساح مخيف يملك رأس سمكة أيضا، وصعدت كهرمانة  أكثر لتخترق طبقة أخرى من البحار، ثم أخرى فاخرى وأخرى، حتى انتهت ووجدت نفسي اطل بنظري  الي السماء الزرقاء الصافية، دون أية حواجز.

بطرقة صغيرة من أصابعها، اختفت الكرة الجليدية وأصبحت حرا طليقا، اجدف بيدي وذراعي، الا انني لم اكن اجيد السباحة ابدا، لذا تعالت ضحكات كهرمانة وهي تراقبني اتخبط في أحضان الامواج المتلاطمة صرخت بقوة:

- لا أعرف السباحة! سوف أغرق!

وبالكاد أتممت جملتي لأشعر بقوة غامضة تدفعني لتلفظني الي الشاطىء، ابتسمت كهرمانة بسعادة وهي تقفز لتجلس بجانبي، بينما أحاول استرداد أنفاسي واستعادة قواي:

- لا تخف! لن تغرق وانت بصحبتي!

صرخت بها ساخرا بعد أن استعدت أنفاسي:

- قال الثعلب للدجاجة.

ضحكت كهرمانة برقة، ومررت يديها فوق وجهي، وأخذت تهمس بكلمات لم افهمها، ضاقت عيناي عليها برهبة واتهام، ماذا تحاول ان تفعل الآن؟!، مالت نحوي مصححة قولي بدلال:

- بل قالت كهرمانة لزوجها!

اتسعت عيناي بصدمة، ماذا تقول ماذا تعني؟! كيف ومتى حدث هذا، وقبل أن اعترض انحنت نحوي وطبعت قبلة رقيقة  فوق شفاهي، وهمست:

- أحبك.

****

اصوات عالية، وروائح كحولية قوية، وصرخات نساء ورجال، لا أعرف أين انا وماذا حدث، فتحت عيناي ببطىء لارى وجه زوجتي القلق، وبسعادة ارتسمت على وجهها راحت تصرخ، هنا لقد استيقظ، ارجوكم ساعدوني.

وبالحال أحاط بسريري الابيض خمس معاطف بيضاء، لأطباء وممرضات، وبدأو باعطائي الحقن، وإلصاق مجسات النبض فوق صدري ، وشعرت بسريان الأدوية الحارقة في عروقي، يا الهي! ماذا حدث؟! وقبل أن أسأل شعرت بثقل في جفوني، وعدت لأغرق في نوم عميق من جديد.

استعدت قواي بعد أيام قليلة، وعرفت من زوجتي، بأني كنت بغيبوبة دامت لعام كامل، واني عدت الي الحياة بعد يأس الأطباء من استيقاظي، كانت بالفعل معجزة، سألت زوجتي:

- أين عثرتم علي ؟!

اجابتني زوجتي بعيون دامعة:

- قرب الشاطىء! يا الهي! خلتك ميتا، ولكن...حمدا لله انك بخير.

كان الأمر غريبا جدا، الا انني لم أجهد نفسي بالتفكير، عدت الي منزلي، دخلت لغرفة مكتبي، حدقت الي الكتب المكدسة فوقه، عبست هل كنت أقوم ببحث ما؟! أخذت اقلب في كتبي ودفاتري وأوراق ملاحظاتي التي اعتدت الاحتفاظ بها داخل مكتبي المغلق باحكام، ، نفخت متذمرا وأنا أعيد اوراقي لاخفيها عن العيون كي اعود لاستكشافها لاحقا، ومن عجلتي سقط الكتاب أرضاً، وطارت أوراقه بسرعة ليظهر رسمة كبيرة في وسط الكتاب، انحنيت لادقق النظر مليا الي الوجه الباسم، وهمست بإدراك:

- كهرمانة! زوجتي!

*********

سألت ماجدة الطبيبه بلهفة:

- هل هناك أمل يا دكتورة؟!

- آسفة جداً، زوجك لم يعد يستجيب للعلاج ابدا، وطوال الوقت يطالب بزوجته كهرمانة، أخشى أن الأوان قد فات.

ذهبت ماجدة الي حيث يقبع زوجها، كان يجلس حول البحيرة الصغيرة، يراقب سقوط أشعة الشمس على سطحها، جلست ماجدة الي جانبه وسألته برقة:

- كيف حالك يا وحيد؟!

نظر وحيد إليها بنظرات فارغة خالية من الحياة وأشار الي البحيرة بصوت خفيض:

- انظري الي ذلك الطفل! أنه يحدق إلينا! هل رأيته؟!

نظرت ماجدة الي حيث أشار، ولكن لا وجود لبشر في ذلك المكان! تابعت برقة وهي تخرج كتاب ضخم من حقيبتها، ووضعته فوق فخديه:

- أجل انا أراه! أنه طفلك، ياقوت! أنظر إليه جيدا فهو يناديك!

احتضن وحيد الكتاب بشدة، ونظر الي البحيرة بحنين وشوق:

- أن كهرمانة أيضا هنا! انها تريدني أن انضم إليهم!

نظرت ماجدة حولها جيدا وتاكدت من أن أحدا لا يراقبها، وأخرجت من حقيبتها قرص ازرق صغير، ووضعتها في فمه، وناولته زجاجة صغيرة من الماء تحثه على ابتلاعها:

- عليك أن تكون بكامل قواك لاجلها، كهرمانة تريدك قوياً، الآن بعد رحيلي سيكون بإمكانك الانضمام لعائلتك الصغيرة ومتابعة اللعب معهم.

هز وحيد برأسه موافقا، تنهدت ماجدة بضجر وعادت تحاول من جديد فجميع محاولاتها في استخراج الكلام منه لم تفيد، ولكن ناصر أخبرها بأن هذه الحبة الزرقاء سوف تجعله يغرد كالبغبغاء:

- حبيبي هل تذكر أين أخفيت الختم الخاص بك؟!

عبس وحيد متسائلا:

- الختم؟! وضعته داخل الصندوق !

سارعت ماجدة تؤكد له وتشجعه للمتابعة:

- أجل هو! أين اخفيته اخبرني، أين هذا الصندوق؟!

نظر وحيد الي البحيرة حيث تداعب كهرمانة طفلهما بحب وحنان، وهمس:

- كهرمانة دفنته تحت الصخرة، قالت بأنه لعنة، أخبرتني بعدم إخراجه أو الاقتراب منه!

زفرت ماجدة حانقة، وعادت بذاكرتها حينما صدح رنين هاتفها وهي بين أحضان ناصر، اذ أخبروها بأنهم عثرو على جثة وحيد ملقاة فوق الشاطىء، حينها لم تسارع ماجدة لرؤيته، بل احتفلت برفقة عشيقها بهذا النبأ السعيد، وبعد ساعات حينما لحقت به إلي المشفى أخبروها بأنه يتنفس بصعوبة، وسوف يبقونه على جهاز الأكسجين كي يستعيد وعيه، ماجدة لم تهتم لأمره كثيرا كعادتها، فقد عاشت حياتها وكأن زوجها غادر الحياة، وطوال العام الذي عاش به على الأجهزة لم تزره سوى مرة أو مرتان، كان وحيد يملك الكثير من الشركات والأراضي الخاصة به، كان قد كتب وصيته فيما لو توفى ان يؤول كل ما يملكه إلى مرضى السرطان والمحتاجين والفقراء، اكتشفت وماجدة أمر هذه الوصية، حينما طالبها ناصر ببعض المال لشراء سيارة وبيت جديد، حينها اخبرها  المحامي بأنها لا تملك حق التصرف بهذا المال وبأنه سيبقى مجمدا في حساب وحيد الي أن يستيقظ أو يموت، وبكلا الحالتين لن تحصل ماجدة على المال ابدا.

الا انها لم تستسلم، فلو استطاعت العثور على ذلك الختم الذي يوقع به كل أوراقه المهمة، لأعادت صياغة الوصية لصالحها ومن ثم تختمها بختمه، حينها فقط ستستولي على أملاكه.

أخذت تتذكر معناتها في خلط أدوية الهلوسة له في شرابه وطعامه، وكيف ثابرت بزرع الاوهام في رأسه، كي تفقده صوابه، تمنت لو تستطيع دفعه للانتحار وحينها ستتخلص منه ولكن لسوء حظها لم يمت.

يا لسخرية الأقدار ، فبدلا من السعي لقتله أصبحت تسعى لإنقاذه، ولكن الي أن تجد الختم فقط، صبرا جميلا. 

زفرت بنفاذ صبر وهي تشد رحالها، فهي متعبة ولم تعد تحتمل، أخبرت وحيد وهي مغادرة:

- غدا سأعود لرؤيتك! اعتني بنفسك!

- أعلم أين الصندوق! هل أخذك اليه!

تسمرت ماجدة في مكانها، والتفت إليه ببطىء:

- حقا؟!  هل تعرف أين هو؟!

هز برأسه مؤكدا:

- بالتأكيد فأنا وكهرمانة دفناه سويا!

انحنت ماجدة نحوه بلهفة وسألته:

- هل آخذ إذن الطبيبة لنذهب معا؟!

هز وحيد برأسه موافقا، فقد تحول الي طفل صغير مطيع لا يفقه الخطأ من الصواب، وبفرحة عارمة سارعت ماجدة لأخذ إذن الطبيبة:

- هذا ممنوع يا سيدتي! إن المريض ليس بقواه العقلية، أخشى أن يؤذيكي أو يؤذي نفسه، ما زلت اعتقد بأن الأمر خطير!

هتفت ماجدة بصرامة وعناد:

- أنه زوجي! انا من يقرر ما هو صحيح وما هو خاطىء فيما يخصه، فقط اعطني الاذن ولا تتدخلي فيما لا يعنيكي!

***

- أخبرني اي صخرة يا عزيزي؟!

أشار إلى صخرة أكبر من سابقاتها صائحا:

- هنا، أجل كهرمانة أخبرتني بأن الصندوق هنا!

تذمرت ماجدة بحقد، (اللعنة عليك وعلى كهرمانة، لا ادري لما أخفيت الختم في مثل هذا المكان، أنها الصخرة العاشرة التي احفر أسفلها لقد تعبت ونفذ صبري).

أخذ وحيد يحفر بحماسة طفل صغير وهو يؤكد لها بأن الختم موجود هنا، وبالفعل أخرج وحيد علبة سوداء صغيرة، ورفعها عاليا بالسماء.

- هنا! وجدتها!

التمعت عينا ماجدة بجشع وركضت تنتزع العلبة من يده، وفتحتها بسرعة ولهفة، أجل أنه الختم، واخيرا ستنتهي عذاباتها.

همس وحيد بسذاجة:

- كهرمانة كاذبة، فقد عثرنا على الصندوق ولم يحدث شيئا ابدا.

أخفت ماجدة الختم بين طيات ملابسها، ونظرت بخبث إلى وحيد الذي اقترب من البحر كثيرا يحدق في سماءه المرصعة بالنجوم وقمره الأزرق المنير، كان يفكر بأن النهاية قد حسمت والان بإمكانه أن يشعر بالراحة، اقتربت منه ماجدة هامسة:

- اذهب اليها الان! هي وطفلك بانتظارك، هيا ادخل الي عمق البحر اذهب اليها ولا تعد.

التفت وحيد إليها وقال بحزن:

-  كهرمانة ستكون غاضبة بالتأكيد! ربما لم تعد تريدني، أريد العودة إلي المنزل!

تحولت نظراتها الرقيقة الي نظرات شيطانية عدوانية وضحكت بصوت ساخر كريه:

- وانا أيضا لا أريدك، في هذه الحالة ماذا سنفعل؟! فقد تعبت من التمثيل والتظاهر، انت رجل فاشل وضيع لا يستحق أن يكون مع امرأة مثلي.

كان وحيد يستمع إليها تحت ضوء القمر، ملامحه كانت غامضة مبهمة، واستمرت ماجدة بسخريتها منه:

- تزوجتك لأجل أموالك أيها الاحمق، كان زواجي منك خطة محكمة، اتعلم من يكون شريكي في هذه الخطة.

أشارت إلي نقطة بعيدة قليلا باتجاه سيارتها، وهناك رأيت تقدمه نحونا، وكلما اقترب منا أكثر كلما أنار القمر وجهه لنا أكثر، كانت صدمتي قوية، كيف يمكن أن يفعل هذا بي، لقد كنت اعتبره اخي، فقد سافر بعد زواجي مباشرة، وقطع كل صلة بيني وبينه، حاولت مرارا وتكرارا البحث عنه وايجاده ولكن دون جدوى، كيف له أن يكون قريبا مني الي هذا الحد...ركضت ماجدة الي أحضانه هاتفة:

- حبيبي لقد حصلنا عليه، لم نعد بحاجة له الان دعنا نتخلص منه ونتزوج ونعيش سويا لبقية حياتنا.

أخذ ناصر الختم الذي كانت تلوح به بيديها منتصرة، ووضعه في جيبه واتجه بخطوات واثقة الي حيث يقف وحيد.

- قد مضى وقتا طويلا يا صديقي، يؤسفني أن التقيك وأودعك في النفس اللحظة، ولكنها الحياة!

أخرج ناصر من حزامه سلاح أسود صغير ووجهه نحو صدري ونظراته مصوبة نحويّ:

- الحياة ليست عادلة أبدا! ألم تعتد القول لي (بأن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه) مقولتك تلك هي السبب في وقوفي امامك الآن! كم كان من السهل عليك قولها، ولكن ماذا لو تبادلنا الأدوار  لطالما كنت تملك كل شيء وترمي لي بالفتات، ليتك بقواك العقلية التامة، كان الحديث بيننا سيطول، فقط أريدك أن تعلم بأنه ليس لدي خيار.

أغلقت عيناي بشدة وسمعت دوي الرصاصة، كان يفترض أن أشعر الآن بالم شديد، ولكن لم أشعر بشيء ابدا، فتحت عيناي ببطىء لأجد ماجدة ملقاة على الأرض مضرجة بدمائها، نظرت إلى ناصر بذهول، ماذا حدث؟ لماذا اطلق النار نحوها، ولكنه ابتسم ساخرا وهو يعيد توجيه السلاح الي قلبي:

- هي خائنة تستحق الموت، من المستحيل أن أتزوج بهذا النوع من النساء، لا تغضب، إن كنت ما زلت تحبها فسوف أساعدك على اللحاق بها!

- وحيد؟!

كان صوت كهرمانة من يناديني، أنها هنا لقد أتت، محبوبتي الجميلة، لم تخذلني ابدا.

تدافع رجال الشرطة نحونا الى الشاطىء أمام ذهول ناصر الذي ألقى السلاح بسرعة الى الأرض وأخذ يصيح بخبث:

- هذا المجنون قتل زوجته، انا حاولت أن امنعه ولكني لم استطع، أنه فاقد لصوابه اقبضو عليه!

كان ناصر يصرخ بشكل مضحك، فهو لم يعلم بأني اضع جهاز تنصت في اذني، وقد سمعت الشرطة ما دار من حوار بيننا، فقد تحركت الشرطة عند الطلقة الاولى، ولو كان مصوبة نحوي لكان الأوان قد فات على انقاذي، ركضت كهرمانة نحوي وقامت باحتضاني وتفقدي لتتاكد بأن مكروه لم يصيبني، بينما أخذت الشرطة ناصر الى القسم وهي تتلو عليه حقوقه بالتزام الصمت.

اقترب مني الضابط سالم وكان سعيدا بنجاح الخطة التي اتفقنا عليها سويا.

- اعتذر منك حقا! لم اكن متأكدا من وجود طرف ثالث في الجريمة، بالرغم من انك أكدت لي ذلك! حمدا لله على سلامتك.

راقبنا ابتعاد الشرطة وسط صرخات ناصر الحاقد، وهو يكيل الشتائم واللعنات نحونا، فيما وصلت سيارة الإسعاف لتحمل جثمان ماجدة داخلها، أحاطت ذراعي كهرمانة بخاصرتي واحتضنتني بشدة وشوق:

- لقد خفت كثيرا عند سماعي صوت إطلاق النار!

ابتسمت سعيدا وأنا أضمها نحوي بشوق وحنان وقلت لها مازحاً:

- أجل وانا أيضاً خفت كثيرا!

نظرت إليّ عاتبة غاضبة وهي تدفعني بعيدا عنها:

- توقف عن السخرية مني فأنا أعني ما اقول!

رفعت يدي مبعثرا شعري باستخفاف:

- انا ايضا أعني ما اقول! ماذا؟! ألأني رجل لا يجب علي أن اخاف؟ ألم تري كيف كدت أموت رعبا من الصوت الذي انبعث من أعماق البحر!

ضربت زمردة جبهتها بكفها، لا فائدة، وصاحت وهي تهزني  بخفة:

- وحيد! استيقظ! انا زمردة! كهرمانة موجودة في خيالك فقط!.

كان يسعدني  كثيرا استفزازها:

- الذنب ليس ذنبي، انتي تشبهين كهرمانة كثيرا، بل انتي طبق الاصل عنها، فقط هناك فرق بسيط جدا، أتعلمين ما هو؟!

عبست زمردة متسائلة بفضول:

- اطربني! ما هو الفرق بيني وبينها؟!

تراجعت خطوتين بعيدا عنها لاتفادى ضرباتها:

- أن ملابسها كانت مثيرة جداً، بعكسك تماماً.

زمجرت زمردة بغضب وهي تلحق به تحت ضوء القمر الشارد، تحاول الامساك به وضربه، ذلك الوقح! لا يوجد لديه ذرة من الخجل.

تحت ضوء القمر احتضنتها كانت تلهث متعبة من الركض خلفي، يا الهي لم اتوقع ابدا أن اجد فتاة احلامي على أرض الواقع، حينما أفقت من الغيبوبة قبل ٦اشهر من الآن، كانت زمردة طوال الوقت ترعاني، كنت كلما فتحت عيني، رأيتها، فاعود لاغلقها من جديد وشعور بالأمان والسلام يغمرني، كانت زمردة من اخبرتني بحقيقة زوجتي، فقد سمعت حديثها مع عشيقها على الهاتف، وعلمت بخطتهم الدنيئة للتخلص مني، والاستيلاء على ثروتي، جلست بجانبي، تبكي وتنوح حزنا على حالي، ورغم عني مددت يدي نحوها لاجفف دموعها، وحينها سحرت بلون عيونها الخضراء اللامعة، فقد كنت برفقتها في احلامي قبل قليل لاستيقظ وأجدها امام ناظري، سارعت زمردة بإغلاق باب الغرفة بإحكام، وحذرتني من مغبة اعلام اي شخص بأمر عودتي للحياة، وبالرغم من اني لم أفهم المغزى من طلبها الا انني وثقت بها وبشدة، واطعتها طاعة عمياء.

ومن خلال قضاء وقتي معها للعناية بي، صارحتني بأنها إحدى طالباتي القديمات،  وأنها كانت ولا زالت معجبة بي، وحينها فقط تذكرت، تلك الفتاة التي أعجبتني والتي كانت تحاول التقرب مني ولفت انتباهي اليها، وبالرغم من اني كنت ابادلها نفس الشعور الا انني أخفيت الأمر بحكم علاقتنا كأستاذ وطالبة، وجافيتها وابعدتها عني، ولكن عقلي الباطني أحتفظ بصورة لها في الاعماق، لهذا ظهرت في احلامي. 

كنت محظوظا بلقائها، فقد رتبت لي لقاء مع قريبها الظابط سالم، وكانت معنا خطوة بخطوة لكشف المؤامرة التي كانت زوجتي تحيكها ضدي، ووضعنا خطة محكمة للإيقاع بها، بعيدا عن المشفى، وتظاهرات زمردة بأنها الطبيبة بينما تظاهرت انا بالخنوع والخضوع، كي يسهل عليها التحكم بي، وبالفعل أتممت الخطة بنجاح وعرفت صديقي من عدوي، واعدت جميع حساباتي، لابدأ صفحة بيضاء جديدة خالية من الاصدقاء المنافقين.

بعد عدة أيام قصيرة، أتممت زواجي من زمردة، وعلى هذا الشاطىء تحت ضوء القمر، قمت ببناء كوخ صغير دافىء، يجمعنا لما تبقى من حياتي.

بعد مرور ٤ سنوات......

- ابي! تعال...اسرع...هيا...

- ذلك الوغد الصغير! سوف يصيبني بالجنون!

لاحقتني ضحكات زمردة، وانا اتجه الي حيث يصرخ ياقوت ويقفز فرحا جذلا، كان يبلغ من العمر أربعة أعوام فقط، انحنيت نحوه متسائلا، فأشار ياقوت الى منتصف البحر صارخاً:

- هناك، لقد رأيتها!...عروسة البحر!

ضحكت فرحا ونظرت الى زوجتي التي لحقت بي بغرور ، وانحنيت نحوها قائلا وانا أضرب فوق صدري بفخر:

- ذاك الشبل من هذا الأسد!

حملت وحيدي الي عنقي واجلسته بإحكام فوق أكتافي وطرفت بعيني نحو زوجتي غامزاً وسألته:

- هل تملك عينان خضراوان؟!

هز ياقوت رأسه بالايجاب بحماسة، فتابعت وانا اتقدم نحو الشاطىء وزوجتي في أثري:

- هل هي جميلة ذات شعر أسود طويل وبشرة بيضاء مضيئة؟!

صاح ياقوت بسعادة اكبر وهو يصفق بيديه بإثارة:

- أجل أنها بيضاء وجميلة جدا!

توقفت مفكرا وأنزلته لأحمله بين ذراعي وملت نحوه هامسا كي لا يصل صوتي الى مسامع زوجتي التي التصقت بنا بشدة:

- هل كانت ترتدي الكثير من الملابس؟!

اجاب ياقوت بصوت عال حازم:

- لم تكن ترتدي شيئا على الاطلاق!

- أحقاً؟! أين هي؟ دعنا نحضر الشبكة لنصطادها...

اتسعت عينا زمردة بصدمة، بينما ركض وحيد هاربا وراحت تطارده غاضبة بينما تعالت ضحكاته الساخرة هو وطفله الصغير:

- انت ايها الفاسد اللعوب؟! لن اترك طفلي برفقتك أبدا، أنت حقا فاسد

واسدل الستار بعد أن وضعا صغيرهما في فراشه الدافىء، ويد بيد اتجها نحو غرفتهما وأغلقا الباب عليهما بهدوء.

The end 


تعليقات

التنقل السريع